مذكرات
مذكرات آدم: مدارسنا... طير يغرِّد ولا يبني عشَّاً
بحكم أن لدَّي توأماً من الأولاد، فقد كان قلقي مضاعفاً عند اقتراب العودة للمدارس، وأما أسباب هذا القلق فهي ثلاثية على رأسها الأقساط المرتفعة للمدارس الخاصة، وثانيها خوفي من ردة أفعال الطفلين لدى دخولهما الأول للمدرسة بما تمثل في ذهن الطفل من تهديد لكيانه لأنه ترك عشه. وأما السبب الثالث فتخوفي مما سيواجه أحدهما من مشاكل في الدراسة والتحصيل، ذلك أني خبرته ملولاً، انسحابيَّاً يُؤثِر الظل، ولا يحب بذل الجهد للتعلم، ولا تغريه المراكز المتقدمة ولا يحب المزاحمة للوصول إلى ما ينفعه.
أما زوجتي فكانت قلقة من عدم قدرتها على التوفيق بين أعباء المنزل والإشراف على أداء الأطفال لواجباتهم المدرسية ومذاكرة دروسهم التي تزداد صعوبة كل سنة وكأن تصعيبها أو تطويل فترة الدوام المدرسي وتكثير الحشو سينقذ التعليم! إن نتيجة هذا الحشو النظري قريبة من المثل القائل: "العصفور الذي يغرد كثيراً يجهل صنع عشه".
كان إلحاح أطفالي لشراء حقائب المدرسة والقرطاسية كبيراً، وكان احتفاؤهم بما اشتروا أكبر، كنت فرحاً برقصاتهم الاحتفالية بعد القدوم من الأسواق، لكن قلقي لا يزال ملازماً لي. وكلما قرأت في كتب تربية الطفل وسلوكه ازددت حيرة في التعامل مع التفاصيل؛ فمنهم من قال احرص على عدم مصاحبة أولادك للمدرسة في الأيام الأولى، ومن قال يجب على الأبوين أو أحدهما في الأيام الأولى أن يبقى بقرب الطفل ولو لبعض الوقت والقدوم لاصطحابه حتى يتم انتقاله من بيئة المنزل لبيئة المدرسة بتدرُّج، ومن قال بأن وجود التوأم في الفصل نفسه له ثمار إيجابية عليهما وعلى المعلمة والأبوين في الوقت ذاته، ومن قال بأن المدرسة تمثل فرصة مناسبة لفصل التوأمين وأن يشق كلٌّ منهما طريقه بمفرده ويتخلص أحدهما من التبعية للآخر.
تحولت حيرتي لإحباط عندما قرأت في كتاب يُحمِّل مؤلفه الأبوين مسؤولية ما يشعر به الطفل في أيامه الأولى في المدرسة بحكم أنهما يبالغان في الحرص والخوف عليه، ولم يشجعاه على تجارب لمواجهة المجتمع بما يحضِّره لمواجهات تجربة المدرسة ونجاحه في هذه البيئة الجديدة، وأن تعامل الأبوين مع الطفل هو الذي يحدد نجاحه أو فشله في التحصيل العلمي وحب المدرسة. وما لفت انتباهي أن صاحبنا أغفل أن بيئة التدريس والمدرس والمنهج التعليمي المحبط بدرجات والعقيم بامتياز في عالمنا العربي هو السبب في جعل المدرسة بيئة طاردة لأطفالنا.
أذكر أنني درَّست مرة في مركز لتحفيظ القرآن الكريم، وكنت أدرس نحو 25 طالباً من الفئة العمرية التي بين أربع وست سنوات، وكانت الحجرة الصفية على أحسن الأحوال مترين بثلاثة أمتار، وأما ساحة اللعب فكانت باحة مسقوفة لفيلَّا سكنية صغيرة تخلو من أي ترفيه، وكانت الإدارة تضغط على المدرسين لضبطٍ أكبر للأطفال. قلتُ وقتها لإدارة المدرسة: بل إنكم تدعونا لاغتيال طفولتهم وقمع أهم خصائصها وهي النشاط وكثرة الحركة.
لا أريد أن أزيدكم إحباطاً بإجراء مقارنة بين التعليم لدينا والتعليم في الدول المتقدمة؛ ففي حصة علوم موضوعها الحشرات عندهم، تصطحب المعلمة التلاميذ لحديقة تعجُّ بأنواع الحشرات والعناكب وتطلق لتلاميذها العنان في ملاحقة الفراشات والعناكب وصيدها للتعرف على خصائصها عن قرب؛ فيتحول الدرس إلى متعة ورياضة بدنية، وتفريغٍ لنشاط الطفل على نحو إيجابي، وأما المعلومات العلمية فإنها تستقر في ذهن الطالب كتجربة عملية لا تنسى، وليس حشواً في تلافيف الدماغ.
تركنا أنا وزوجتي الكتب التي لم تزدنا إلا حيرة، ووجدنا راحتنا في أن نفزع للصلاة واللجوء إلى الله تعالى وأن نسأله ألاَّ يتركنا وأطفالنا لاجتهادات وإحباطات العملية التعليمية.
"إذا لم يكن عوْنٌ من الله للفتى فأول ما يجني عليه اجتهاده"