قصص أمهات
تأتينا الذكريات من الروائح والأصوات لتعيدنا لما مضى
تراودني الذكريات بأشكال مختلفة.. وغالباً ما تكون مرتبطة بشكل كبير بالروائح!
روائح الأشياء التي لطالما أنعشت في ذاكرتي صوراً من الماضي كنت قد عشتها بكل تفاصيلها.. ثم لم يتبق منها في الذهن سوى رائحة تنطق عنها وتذكر بها!
فالذكريات موجودة في رائحة كيك الشوكولاتة الشهي الذي كانت تعده أمي رحمها الله..
كم كنا أنا وأخي سعداء في الماضي ونحن نتناولها بشهية كبيرة!
وهي موجودة أيضاً في ثياب أمي التي كلما حملتها لأشمها شعرت بسعادة وامتنان كبيرين لأنها ما زالت بعد مضي 6 سنوات على رحيلها تحمل نفس الرائحة.. رائحة أمي
وتأتي الذكريات أيضاً في كل مرة أشم فيها رائحة عشبة الليمون وزيت الياسمين.. فأعود إلى تلك الأيام الجميلة التي قضيتها مع زوجي في شهر العسل في شرق آسيا.
وفي كل مرة يعد فيها أبي الحبيب الكنافة النابلسية.. فأحن إلى اجتماعاتنا العائلية التي كانت الكنافة أمراً أساسياً فيها.
أما في هذه الأيام، فأجدني كلما اشتممت رائحة شعر طفلتي جمانة تذكرت رائحتها الجميلة أول ولادتها.. يا إلهي كم أحببت تلك الرائحة!
نحن جميعاً نكون ذكرياتنا بالطريقة التي نحب أن نتذكر بها المواقف والأشخاص والأماكن التي مررنا بها قبل عدة سنوات.
بعض هذه الذكريات ترافقنا طوال حياتنا وتجذبنا إليها بأجمل طريقة ممكنة، وبعضها الآخر يختفي مع الزمن..
عندما أفكر بأعز ذكرياتي التي جمعتني بمن أحبهم.. أدرك أنها هي تلك التي ظهرت بعفوية دون تخطيط أو ترتيب.. هي تلك الذكريات التي يدركها القلب قبل أي شيء!
فقد يتحول اجتماع عفوي لنا ببعض الأصدقاء إلى ذكرى لطيفة ولحظة نضحك فيها كثيراً في المستقبل.
هذه الذكريات تسعدنا أينما كنا في الحياة. ومع ذلك، فمن الحماقة الاعتقاد بعدم وجود ذكريات مؤلمة! لا بد بأنها موجودة أيضاً، وإلا فإن حياتنا لن يكون لها هذا التوازن المثالي بين الفرح والألم.. بين الجيد والسيء!
أعتقد أن تجاربنا السيئة تدفعنا للشعور بالامتنان.. فلولا أوقات حياتنا العصيبة في الحياة، لما كنا نقدر كل النعم التي تحيط بنا دائماً دون أن ننتبه لنا.
فالعديد من علماء النفس يؤكدون على أن "التمسك بالذكريات الجيدة يساعدنا في التعامل مع المواقف غير السارة والاحتفاظ بنظرة إيجابية للحياة".
منذ أكثر من 80 عاماً أجري تحقيق لمعرفة مدى ارتباطنا بذكرياتنا الإيجابية والسلبية.
حيث طلب علماء النفس من مجموعة من الأشخاص تذكر أحداث حياتية محددة، لتظهر البيانات التي تم جمعها أن عينة من هؤلاء الأشخاص قد نسوا ما يقارب 60 ٪ من التجارب والذكريات السيئة في حياتهم، بينما نسوا ما نسبته 42 ٪ فقط من ذكرياتهم السعيدة.
لذلك فإننا عندما نفكر بأطفالنا، نشعر أننا سنفعل أي شيء وكل شيء فقط لنراهم سعداء.. ولتكون سعادتهم هذه رصيدهم من الذكريات في المستقبل!
مهما كلفنا الأمر نحاول أن نصنع أفضل الذكريات معهم، على الرغم من كل ما نواجهه من صعوبات وتحديات ونحن نقوم بدورنا كأمهات أو آباء.. فمهمتنا ليست سهلة على الإطلاق!
فمن جهة نريد لأطفالنا أن يكونوا سعداء ومن جهة أخرى نريد تربيتهم وغرس أفضل القيم والمبادئ في نفوسهم، ليكبروا ويكونوا أفراداً مستقلين واعين ناجحين في حياتهم.. ومهمتنا هذه تصبح أصعب يوماً بعد يوم
نعم، هناك الكثير يحدث في عالمنا اليوم، لكن الكثير حدث قبل مئة سنة من اليوم أيضاً، ولا زلنا نلتقي بأناس رائعين ومحبين ومتعاونين، استطاع والديهم أن ينشئوهم ويربوهم بطريقة إيجابية.
على الرغم من أنه قد يكون من الصعب في بعض الأحيان التركيز على كل ما هو إيجابي، لأننا جميعاً لدينا أيام جيدة وأخرى سيئة، إلا أنه من المهم دائماً التركيز على النعم التي لدينا.
فالعديد منا لا بد قد صادف أشخاصاً لا يملكون من الحياة الكثير، لكن مشاعر الامتنان والرضا لديهم تكون بارزة وإيجابيتهم معدية لمن حولهم.
ومن هنا نعلم أن موقفنا تجاه الحياة وتعاملنا مع محنها هو ما يصنع الفرق حقاً، ومنذ اللحظة التي نصير فيها أمهات أو آباء نستحق أيضاً لقب "صناع الذاكرة" بالنسبة لأطفالنا.
بالنسبة لي، لا أهتم بمدى اتساخ المكان الذي تأكل فيه طفلتي الصغيرة، طالما أنها تتعلم حب الطعام وتشعر بالسعادة وهي تكتشف أشياء جديدة من حولها.
فأنا أعرف أنها كلما كبرت، ستصبح مهمتي أصعب، لكنني أعرف أيضاً أنني ووالدها سنبذل قصارى جهدنا لإعطائها جميع الأدوات التي تحتاجها لتصبح فرداً صحياً وسعيداً.
قد لا تتذكر كل خطأ ترتكبه أثناء التعلم، لكنها ستتذكر بالتأكيد ردة فعلنا على تلك الأخطاء.
وفي أحد الأيام، آمل أن تنظر إلى طفولتها وتتذكر جميع الأوقات الممتعة التي قضيناها معاً.
أتمنى أن تتذكر رائحة المخبوزات التي أعدها، وأتمنى بالتأكيد أن تحب صنعها بنفسها أيضاً! ولكن هذا الأمر بالطبع يرجع لها.
أتمنى أن تتذكرنا ونحن نغني ونرقص معاً.. وأن تتذكر ملايين الأشياء السعيدة عندما تشم روائح عشوائية طوال الوقت.
في النهاية، أتمنى من كل قلبي أن تسعدها هذه الذكريات وترسم الابتسامة على وجهها الجميل في كل مرة تشم رائحة تذكرها بها أينما كانت في هذه الحياة.
* هذا المقال مترجم بتصرف من اللغة الإنجليزية Scented Memories