التدخل والعلاج
التدخل المبكر: مفهومه وأهميته في السنوات الأولى من عمر الطفل
يتأخر تشخيص بعض الأطفال الذين يعانون من مشاكل صحية تطورية معينة في مرحلة الطفولة المبكرة، وإلى حين أن يثبت التشخيص كان لا بد من حل ما لمساعدتهم، ومن هنا جاءت فكرة التدخل المبكر.
التدخل المبكر هو مصطلح يطلق على الخدمات الصحية المقدمة للأطفال وأسرهم منذ الولادة وحتى دخول المدرسة، وذلك إذا لوحظ أنهم يعانون أو معرضون لخطر التأخر أو الانحراف، الواضح أو المستتر، في تطورهم العصبي.
إن التدخل المبكر والفعال يكون بكشف الحالات التي تحتاج للمساعدة، ثم تقديم البرنامج الملائم لها، حتى قبل تشخيصها الدقيق، وبذلك نعمل على منع حصول مشكلة أو تفاقمها...
وقد ثبت عظيم أثر التدخل المبكر على الطفل وعائلته والمجتمع واقتصاد الدولة، حيث يقلل إلى حد كبير من مستوى التحديات التي قد يعاني منها الأفراد من ذوي الاحتياجات الخاصة واسرهم.
إن برامج التدخل المبكر تحتاج لفريق عمل، يتشكل عادة من ممارس الأطفال واختصاصي التطور العصبي واختصاصي طب أعصاب الأطفال والمعالج الطبيعي والنفسي، ويضاف بعض التخصصات الأخرى حسب الحالة مثل اختصاصي العيون، النطق، السمع...إلخ.
إن الحديث عن هذا الموضوع لا يسعه مقالٌ واحد، لذلك سأعيد الكتابة فيه لتوضيحه أكثر.
دعوني أشارككم تجربتي..
فخلال عملي كطبيب أطفال وحديثي ولادة، كنت أتألم وأنا أشاهد المواليد غير المحظوظين، الذين يبقون على قيد الحياة، لكنهم تعرضوا لضرر كبير في المخ أو الرئتين بالخصوص.
وفي أحد أيام الثمانينيات من القرن الماضي، كنت استمع إلى الـ BBC، فلفت انتباهي أمهات بريطانيات يتحدثن بنشوة وسعادة عن التحسن الذي حصل لأبنائهن الذين كانوا يعانون من قصور في التطور.
وذلك عقب العلاج في مدينة بودابست، عندها قررت التعرف على هذه المراكز أكثر، فكان أن تعرفت بالأستاذ فرنس كاتونا أحد رواد التدخل المبكر في ذلك الوقت.
عدت إلى الإمارات ظاناً أنني قد فزت بكنز ثمين، وعازماً على إنشاء أول مركز للتدخل المبكر في المنطقة، وقد فعلت.
حيث لم تكن مثل هذه المراكز منتشرة في بلادنا، وبدأت بتعريف الزملاء بالموضوع، وكمثال على رد فعلهم ما قاله أحد الزملاء وكان رئيساً لقسم حديثي الولادة في دبي: "من اين لك هذا الكلام د. احمد. فنحن تصلنا جميع الدوريات والكتب الطبية، وليس فيها ما تتحدث عنه!" وكان على حق.
في ذلك الوقت كانت المراجع الطبية لا تذكر هذا الأمر، وكان الأطباء لا يعتقدون بالمرونة الدماغية، ويرون أن الخلايا العصبية التالفة لا يمكن علاجها، وعلينا أن ننتظر ونرى ما يؤول إليه حال الطفل، وعند وضوح الإعاقة فنبدأ بالعمل! لكننا بذلك كنا نضيع وقتا ثميناً.
لقد تراكم خلال العقود الأخيرة كمٌ هائلٌ من المعلومات عن الدماغ وطريقة عمله، ساعدت على وضع برامج التدخل المبكر الحديثة، والفئة التي تهمني هنا هي الأطفال الرضع، فهي من أخطر مراحل الطفولة.
حيث يكون نمو الدماغ في هذه المرحلة أسرع ما يمكن، ففي كل دقيقة يتشكل 250000 خلية عصيبة، وكل خلية منها تشكل، حسب ما تتعرض له من تحريض خارجي وداخلي، مليارات من التشابكات فيما بينها.
لذلك فإن التعرف على أي انحراف في التطور العصبي في هذه المرحلة، خاصة قبل سن الثلاثة أشهر، هو أمر مهم جداً.
وبما أن 80 بالمائة من حالات الإعاقة هي ولادات طبيعية، وتطورها يبدو طبيعياً في الشهور الاولى من العمر، لذلك دلت الإحصائيات أن 90 بالمائة من الأمهات لا ينتبهن إلى الانحراف في تطور أبنائهن قبل سن الرابعة.
لذلك فإنه يجب الحرص على الزيارات الدورية التي يحددها طبيب الأطفال، وبالخصوص للرضع (حتى عمر السنتين).
لماذا نلجأ إلى التدخل المبكر؟
التدخل المبكر يوفر على الأهل والطفل جزءاً لا يستهان به من تبعات الرعاية لحالات الاحتياجات الخاصة المادية والنفسية. كما أنه يوفر على الدولة حتى 40 % من الكلفة حسب الإحصائيات.
يصل عدد ذوي الاحتياجات الخاصة من الأطفال في العالم ما يزيد عن المئة مليون، ونسبتهم في مجتمعنا مرتفعة، حيث أن أكثر من 2% من الرضع في وحدة العناية الخاصة مصابون بالصمم.
وكل رضيع يدخل هذه الوحدة بحاجة لهذه الخدمات، إلا أن 50% من الأطفال دون سن الثلاثة شهور، والذين يخضعون للعلاج يتعافون بشكل تام.
باختصار.. برامج التدخل المبكر هي برامج وقائية أولاً، وهي للتعرف على الأطفال الأكثر عرضة للانحراف في تطورهم العصبي والبدء بعلاجهم فوراً.
الفحص الدوري للأطفال ضروري، لأن غالبية ذوي الاحتياجات الخاصة، هم من الأطفال "السليمين" حملاً وولادة، وطبيب الأطفال هو من يوجه الأهل، ويبقى حلقة الوصل بينهم وبين فريق العمل.
العلاج ممكن ويجب أن يبدأ فوراً، حتى وإن لم يتحدد تشخيص دقيق للحالة بعد.
القاعدة الذهبية "درهم وقاية خير من قنطار علاج"