قصص أمهات
اليوم الذي اكتشفت فيه رمضان لأول مرة!
لم يكن لمنزلنا طقوساً خاصة خلال شهر رمضان في طفولتي، ولم تكن مظاهر الاحتفال الحديثة من زينات وفوانيس وأضواء قد انتشرت بعد.
كان والدي فقط يشتري لنا فانوساً جديداً كل عام يختاره هو، إلا أنني لم أكن أستوعب فكرة شهر رمضان والصيام بعد؟ كانت بالنسبة لي أياماً لم تختلف عن الأيام الأخرى؟ برغم محاولات والدتي المستمرة أن تعلمنا الصيام، لنعتاد عليه تدريجيا، فنمتنع عن الطعام والشراب حتى الظهر، ثم العصر في العام التالي، وهكذا حتى نتعلم.
لكنني لم أكن أفهم.. ماذا نتعلم! لماذا نصوم؟ كنتُ أسأل أمي فتُجيب: "لنشعر بالفقراء"، فأسأل مجدداً لماذا لا نشرب بالتأكيد الفقراء يشربون! فتجيب لأن الله أمرنا بذلك، فلا اقتنع وينتهي الحوار إلى هنا!
فقط في عمر العاشرة عندما قرر والدي أن يصحبني لأول مرة إلى السوق لنشتري التمر والياميش وغيرها من مستلزمات الشهر الكريم، اكتشفتُ رمضان!
ما زلت أذكرُ انبهاري بذلك الكرنفال الملون المضيء.. خيامٌ كبيرة من قماش مزخرف بزخارف هندسية بديعة ملونة مبهجة، الكثير من الأضواء الملونة التي تتراقص في كل مكان، صوتُ عبد المطلب في الخلفية يشدو "رمضان جانا وفرحنا به بعد غيابه"، ومحمد فوزي يغني مبتهجاً "هاتوا الفوانيس يا ولاد هاتوا الفوانيس".
الكل يعرضُ بضاعته في أكياس كبيرة من الخيش العتيق، كثيرٌ من التمور والفواكه المجففة والزبيب والمكسرات، رائحة جوز الهند والبخور تنتشر في كل مكان..
خيامٌ مليئة بالفوانيس النحاسية الكبيرة بزُجاجٍ ملون بديع، زُيِّنَ بآياتٍ قرآنية بخطٍ عربيٍ جميل وزخارف صغيرة متقنة، لا فانوس يشبه الآخر، كأن كل منهم قصة فريدة تحكي الكثير من الإبداع والشجن.
في ذلك اليوم، قررتُ أن أكتشف "رمضان"، قررتُ البحث عن أصول كل تلك المظاهر الاحتفالية، أصل الفوانيس، التمور والفواكه المجففة، أصل كل تلك الحفاوة البالغة بقدوم ذلك الشهر الفريد.
قررتُ فهم الصيام!.. لماذا نصوم؟.. ولماذا لا نأكل ولا نشرب؟ .. ما العبرة الخفية من كل ذلك، ما الرسالة التي تجمع كل المسلمين علي قلبٍ واحد في أذانٍ واحد، ووقتٍ واحد ليأكلوا ثم يُمسكوا، ثم يبتهجوا فيفطروا!
عرفت الكثير في ذلك العام وتغير كل شيءٍ في داخلي، شعرتُ أنني وأخيراً ولأول مرة أفهم وأشعرُ بتلك اللهفة التي يشعر بها الجميع انتظاراً لذلك الزائر الكريم الذي يأتي لِشهرٍ واحدٍ فقط كل عام!
لأولِ مرةٍ أصومُ حتى المغرب دون أن أتذمر، أُقاومُ العطش والجوع وأتجاهلهما، أستيقظُ بحماسةٍ للسحور، وأُساهمُ في إعداد الفطور، صنعتُ فوانيس بسيطة من الورق الملون وقصصتُ الكثير من النجوم والأهلة اللامعة، وصنعتُ بنفسي زينتي الخاصة.
ما زلت أذكرُ حزني الشديد ذلك العام لانتهاء الشهر الكريم، حسرتي وأنا أجمع زينتي وأحتفظُ بها للعامِ القادم فرحتي بقدوم العيد لأول مرة وابتهاجي بالملابس الجديدة وكأنها مكافأتي الصغيرة، لأنني أخيراً قررتُ أن أفهم.. أن أشعر..
وإني منذ ذلك العام قررت أن أدفع نفسي لفهم شيء جديد في شهر رمضان.. شيئاً يفتحُ قلبي للإيمان أكثر َوأكثر، فدرستُ قصص الحيوان في القرآن في العام التالي، وقصص الأنبياء في العام الذي يليه، ختمت المصحف قراءةً لأول مرة في احد الأعوام، في العام الذي تلاه اقتنيتُ مصحفاً مفسراً لأفهم القرآن أكثر.
وبعد زواجي ومنذُ ولادة صغيري أحرصُ على تزيين المنزل وإضفاء الطابع الرمضاني عليه، وأنقلُ إلى منزلي الصغير بهجة تلك الاحتفالات الكرنفالية التي شاهدتها في السوق عندما اكتشفتُ رمضان لأول مرة، أُعلق الاضواء الملونة والزينات المتنوعة، وأقتني في كل عامٍ غرضاً جديداً أُضيفه إلى بيتنا في أيام رمضان.
ورغم معرفتي أن صغيري مازال لا يستوعب كل هذا وربما لا يلاحظه، إلا أنني واظبتُ على طقوسي كل عام حتى فاجأني صغيري هذا العام وأنا أتحدث إلى والدتي عن رمضان ليسألني متى سيأتي رمضان، متى سنعلق الزينة، ومتى سأُعطيه فانوسه الجديد لهذا العام!
تفاجأت يومها كثيراً وأدركتُ أن كل شيء يعلقُ في ذاكرة الصغار وإن لم ندرك ذلك، لا جهد يذهب سدى ولا تفاصيل تمر بهم عبثاً..
قررتُ هذا العام أن أبدأ بالتحدث إليهِ عن الصيام بشكلٍ بسيط يفهمه ويستوعبه على سنواته الأربع، أكررُ مراراً وتكراراً أننا نفعلُ كل ذلك لنتعلم الصبر، ليرضى عنا الله وامتثالاً لأوامره وتعظيماً لشعائره.
سأحرصُ في كل عامٍ أن يتعلم شيئاً جديداً ليتعرف أكثر إلى ذلك الصديق الكريم.. شهر النعم العظيمة والفضل الكبير..
لذا، لا تغفلوا الاحتفال بقدوم ذلك الشهر الكريم وكونوا على يقينٍ أن كل ذلك تتشربه نفوس صغاركم ويستقرُ عميقاً في قلوبهم.
أجيبوا على أسئلتهم وإذا لم تملكوا الإجابة ابحثوا عن إجابات تقنعهم، "فالقلب لا يؤمن حتى يفهم".. ولا يتفتح إلا عندما تنتهي الأسئلة ويطمئن للإجابة، لا تضجروا من شغفهم وتعطشهم للمعرفة، فذلك سلاحهم السري لاكتشاف العالم والعثور على الطريق..
اعاننا الله جميعاً على تنشئتهم والإحسان إليهم..