قصص أمهات
اسمي نهاية لكن قصتي بلا نهاية..
بقلم: رهام غانم
قصَّة أم لأربعة أطفال
بدأت سنة ٢٠٠٨ كأي سنة طبيعية، أيامنا عادية ما من مستجدات تحدث... كان عندي ابنتين وولد وحدث وأن حملت بطفلي الأخير وعندما وصل حملي لشهره الرابع أصيبت ابنتي بالحصبة ولم أكن أعلم أن حالتها ممكن تؤثر على الجنين، من هنا بدأت الشكوك تساورني بما قد يحدث معه...
مضت بضعة أشهر حتى وصلت للشهر السابع بدون مضاعفات، فشعرت بالطمأنينة بما أنه لم تظهر أية مضاعفات للحمل فأخبرت نفسي أن طفلي لم يتأثر ولم يصب بالعدوى...
لكن عند مراجعتي الشهرية أخبروني بأن الماء الذي يحيط بالجنين بدأ بالجفاف، حينها عاد القلق ليجتاح تفكيري...
مضت أيامي وأنا أدعو ربي أن يتمم حملي على خير... لكن أي خير سيحدث أكثر من ذلك الذي حدث معي فقد أُدخلت المستشفى على إثر التهاب رئوي حاد كاد يودي بحياتي بسبب الحمى الشديدة.
اتخذ الأطباء القرار بإدخالي قسم الولادة حتى لايصيب طفلي أي مكروه بما أنني كنت في الشهر التاسع لكن أثناء الولادة بدأت تصيبني تشنجات حادة أفقدتني الوعي. وبالرغم من كل هذا جاء ابني الملائكي محمود في يوم محفور في ذاكرتي 29/12/2008 وقلت في نفسي علَّها نهاية سنة 2008 تطوى بما فيها من توتر وقلق... لم أكن لأدري أنها بداية لا نهاية لها!
بداية معاناتي ولكني بقيت صامدة
مضي عامين على ولادتي لمحمود كنا قد وصلنا إلى حياة مستقرة سعينا سوياً أنا وزوجي لنصل إليها. وكان ابني محمود قد تعلم المشي والنطق وأصبح طفلاً اجتماعياً. كنت اعتقد أن حياتي تسير كما تريد أي فتاة حياة سعيدة تبنيها مع زوجها خطوة بخطوة.. لم أكن أعلم أن زواجي المبكر في عمر ال 16 سنة سيكون نقمة عليَّ فيما بعد... كل ما أعرفه أن كان عليَّ أن أحصِّن نفسي ضد عثرات الزمن وأن أحصل على الأقل على شهادة الثانوية العامة.
بدأت رحلتنا تأخذ منحى آخر غير عادي، شعرت بانعكاس تصرفات محمود بشكل تدريجي حيث فقد مهارة النطق وأصبح يرفض الذهاب إلى الحمام، لا يسمع كلامنا ويفضل العزلة. قمت بمشاركة مخاوفي مع زوجي ولكنه لم يقتنع بكلامي ورفض اللجوء لأيِّ شخص فمحمود المدلل لديه.. كان يحبه أكثر من أي طفل ويلقبه ب "محمود العريس".
بصراحة لم أصغي لزوجي وبدأت ابحث على الانترنت وفي كل مكان عن حالة ابني. سألت وسألت... لجأت لمعلمات ابني الكبير في المدرسة ونصحوني بوضعه في روضة تعليمية عله يتعلم منها شيء وبعد أن أقنعت زوجي قمنا بتسجيله بالحضانة فقط لأنه لاحظ مدى انعكاس سلوكه!
وافقت الحضانة على استقباله بشرط القيام بتقييم للمهارات والتطور لدى مركز متخصص وبالفعل قمنا بذلك وتبين أن طفلي يعاني من تأخر بسيط في المهارات وعليه أن يتلقى جلسات في العلاج الوظيفي والسلوكي والنطق، عندها سيتحسن..
وبالفعل، بدأ مشوار محمود العلاجي بالرغم من عدم اقتناع زوجي. كنت في كل يوم أوصل أطفالي الآخرين إلى مدارسهم ثم نكمل يومنا أنا ومحمود ما بين روضة وجلسات علاج وحصص سباحة، اخرج صباحا وأعود مع عودة زوجي من عمله.
لا أنكر أنني تعبت وتعبت كثيراً، زادت أعبائي العائلية والمنزلية ولكن أحمد الله على مساعدة زوجي لي فكان يحمل عني بعض أعباء الأولاد الثلاثة الآخرين ومهامي المنزلية.
بدأت حالة محمود في التحسن وشعرت بالاستقرار في حياتنا من جديد، لكن فجأة تراجع محمود من جديد وبدأت رحلة البحث من جديد، لم أترك مركزاً ولا طبيباً إلا وطرقت بابهم... حينها اكتشفت أن طفلي يعاني من شحنات وتشنجات على الدماغ... انهارت أعصابي وأصبحت في دوامة لانهاية لها، لكن بفضل إيماني كنت أجبر نفسي على الوقوف دوماً والاستمرار في مسيرتي.
اليوم الذي كسرني وهدَّ من حيلي!
حتى سقطت يوماً وما عدت قادرة على الوقوف بعدها، بتاريخ 4/5/2012 وصلني خبر وفاة زوجي بحادث سير.. اذكر وقتها أنني فقدت كل شيء... سندي... حياتي... كل ما أملك.. فقدت الإحساس بالحياة... تدمرت حياتي... وحياة أطفالي الأربعة.. كانت أكبر المصائب بالنسبة إليَّ ... لكن القادم كان أصعب وأعظم...
كنت لم أتجاوز الثامنة والعشرين من العمر.. كنت صغيرة وكبرت فجأة.
لا أخفيكم أن صدمتي استمرت لسنة كاملة، كانت سنة ضياع بالنسبة لي ولأطفالي اللذين لم يسلموا من تدخلات الآخرين في حياتهم ولم يسلموا من صراعات أمهم النفسية مابين صدمة ونكران لما حدث والتي لم أفق منها حتى اللحظة!
تبعات ما حدث على أطفالي الأربعة!
كل هذا طبعاً أدى إلى تراجع حالة محمود أكثر وأكثر.. ولم أجد مسانداً لي حتى جدهم والد زوجي لم يكن مقتنعاً بحاجتنا إلى خدمات تربية خاصة ومراكز متخصصة، كان دائماً ما يقول: " أنت الوصي عليهم ولك القرار وعليك التنفيذ".
وكالعادة قمت بما هو في مصلحة أطفالي ورحلت إلى مكان قريب من المركز الذي سيلتحق به محمود لكن وبعد رحيلي تم رفضه لتراجع حالته ولأن مشكلته تغيرت من بسيط الى متوسط الشدة!! من هنا بدأت رحلة التنقلات من مركز إلى اخر.. هذا يرفض طفلي لان مشكلته ليست بسيطة وذلك يرفضه لعدم توفر شاغر له وذلك المركز وضعه سيء، والآخر ازداد وضع ابني فيه سوء...
تبين لنا وبعد تقييمات وفحوصات رسمية أن ابني مصاب بالتوحد بجانب تأخر النمو والتشنجات! يا الله كان يوماً صعباً جداً، بكيت وانهرت في المركز التشخيصي.
دعوت ربي وكنت كلي أمل أن رحلة الشقاء هذه لابد لها وأن تنتهي. وبالفعل، وجدت أناساً عطفوا على حالي وكانوا بصدد افتتاح مركز جديد ولديهم طفل يعاني كطفلي، تعاونوا معي وقبلوا تسجيل محمود. المشكلة أنني لم أكن قادرة على دفع تكاليفه حتى مع الخصم!
قررت البحث عن عمل وأخذت على نفسي عهداً ألا أيأس من الرفض الذي واجهني لعدم حصولي على شهادات ثانوية أو جامعية. رزقتي الله ووجدت عملاً في جمعية لتدريب شباب وشابات من ذوي الإعاقات، ومع أن الراتب لا يكفي حتى قسط ابني الشهري في المركز، لن أكن لأقف مكتوفة الأيدي انتظر من يتصدق علي... بدأت بتطوير نفسي وتدريبها على الدورات وحضور المحاضرات حتى أثبت نفسي في العمل وبالفعل نجحت في عملي حتى يومنا هذا.
محمود حالياً تجاوز التسع سنوات وبدأ في التحسن، لكن تحسنه بطيء لأنه يعاني من شحنات على الدماغ وشحنات على القلب... قلبه لا يتحمل ومتعب.. وسمات توحد ووزن زائد نتيجة الأدوية التي يتناولها يومياً.
أبنائي مازالوا مصدومين؛ لم أتركهم ولجأت لأخصائيين نفسيين لمساعدتهم لكن لم أجد تجاوباً لأنهم لم يخرجوا بعد من الصدمة، من يحدث أباه في المرآة ومن تدنى أداؤه الأكاديمي والاجتماعي. لا زلت أبذل قصارى جهدي حتى أخرجهم من هذه الحالة ولكني تعبت من أعباء الحياة المادية والنفسية... لم اعد أقوى على الاستمرار... تعبت من أن أكون سنداً لأطفالي ولا سند لي!
إلهي أنت أدرى بحالي اختر لي حياة أفضل... أريد أن أحيا بكرامة... بهدوء... وصلت لطريق لا نهاية له... أحتاج من يعاونني في التربية ومن يشد من أزري في رحلة علاج ابني المميز لا أكثر!
لا زلت أحاول الصمود، أبحث عمن يسمعني ويشعر بحالي...أنا اسمي نهاية وقصتي بلا نهاية...وأريد نهاية لصدماتي...