قصص أمهات
عندما أرسلت طفلتي إلى الحضانة بعد عامين دون انفصال
بقلم: باسنت إبراهيم - كاتبة وأم لطفلة فراشتي الصغيرة فريدة.. هذه الأيام نمرّ بتجربة جديدة، تذهبين إلى الحضانة وتنفصلين عن حضني لأول مرّة لعدة ساعات يوميًا... لازلتِ تبكين كلما هممت بالانصراف وتركك للمعلمات هناك، تبكين وتنظرين لي نظرات لوم وعتاب لتركك بمفردك... أعلم أنني أتركك في مكان آمن، لا يبعد عن منزلنا بضعة أمتار قليلة، أتركك لساعات قليلة أيضًا وأظل بجانبك، ولكنكِ مثلي تمامًا لا تجدين هذا سهلاً أو معتاداً... طوال عامان نحن لم ننفصل لحظة.. أتفهم نظراتك ولومك يا صغيرتي...ولكن يومًا ما ستكبرين وستتحول هذه النظرات لتقدير وامتنان على التجربة بكل ما تحمله. أول ثلاثة أيام كنت أتركك داخل الحضانة وأبكي مثلك تماماً...أبكي ولا أعلم أين أذهب، يتملكني شعور حاد بالذنب تجاهك ولا استمتع بمذاق الحرية الذي يتحدثون عنه، أتجول حول المكان لأشعركِ أنني قريبة...حتمًا ستشعرين.. تتسارع أصوات اللوم داخلي، أهم لأدخل وآخذكِ في أحضاني ونذهب إلى المنزل...ولكنني أتذكر وعدي لكِ بألا أكون أمًا أنانية...فأنصرف.
يومًا بعد يوم أدركت الحقيقة، أن شعوري بالذنب لإرسالك إلى الحضانة هو وهم كبير خُيل إلي، أنتِ تبلغين عامك الثاني الآن بشخصية رائعة، ترغبين في المزيد من اللهو والأصدقاء والتجارب، ربما الذنب الحقيقي الذي كدت أقترفه اتجاهك هو الخوف الزائد عن الحد الذي كاد يقمع شخصيتك ويحدّ إبداعك.. الذنب الحقيقي هو أن تكبرين معتمدة عليّ تمام الاعتماد...لا أن أدعم شخصيتك بكل ما أملك من حب وتربية ورعاية.
هدأت قليلاً وأدركت أن كل ما تحتاجينه مني الآن هو الحب والدعم لتربيتك، فتاة مستقلة قوية قادرة على مواجهة الحياة بلا التعلق الزائد بي أو الالتصاق بيدي أينما كنت... وأن هذا الانفصال الحتمي...هو الأفضل لكلينا ولشخصيتك الجميلة بالفعل. يومًا تلو الآخر، رأيتك تكبرين بالفعل يا فريدة، تخوضين تجارب مختلفة، تحصلين على صداقات جديدة وتكفين عن البكاء فور ذهابي لتندمجي في عالمك الجديد الواسع...في تلك اللحظة لمت نفسي كثيرًا على شعوري بالذنب سابقاً، وأدركت أنني كنت سأضيع عليكِ كل هذا، لأنني خائفة أكثر من اللازم. وتذكرت يا فراشتي، منذ عدة أيام كنت في اجتماع عمل بمكان محبب إلى قلبي كثيرًا، حضرنا ورشة كتابة إبداعية، تحدثنا من أعماق قلوبنا، ومارسنا أنشطة متعددة في الكتابة... ثم طُلب منّا أن نوجه رسالة أيًا كانت لشخص يهمنا، نجمعها كلمة كلمة من قصاصات الجرائد والمجلات... كان عقلي مشوشًا ببكائك في الحضانة وقلبي منشغل عليكِ حد البكاء.. قررت أن أرسل لكِ رسالة ولم أعلم حينها أن الله جل شأنه هو من سيرسل لي رسالة عبر رسالتك...تطمئن روحي وعقلي وتهدئ شعوري بالذنب... وقعت بيدي مجلة ميكي الشهيرة...وكانت أول جملة تراها عيناي هي " أنتِ تكبرين وتزدادين قوة كل يوم" جمعت قصاصة وراء الأخرى في صفحات متفرقة من المجلة لأجد أن الرسالة اكتملت دون سابق ترتيب.. رسالة تحمل كل شيء، رسالة عشوائية ولكنها أعادت ترتيب كل مشاعري وفوضى قلبي اتجاه تجربتنا الجديدة.. الله يخبرني أن فراشتي الصغيرة...تكبر...أجنحتها أصبحت أكثر قوة...وحان وقت خروجها للسماء الواسعة...اقرأ الرسالة على الحضور وقلبي يرتجف بشدة... في الحقيقة كنت أشعر أني أقرأها لنفسي، لعقلي وقلبي، اقرأ رسالة بُعثت لي على وجه الخصوص. في نهاية الورشة عندما سُئلت عن مشاعري؟ أجبت أنني صرت أكثر هدوءاً الآن "بتحسن...وبارتياح" ثم في طريق عودتي للمنزل، قرأت مقولة على موقع فيسبوك للجميلة نادية العوضي تقول "من أصعب الحاجات في الدنيا أنك تشوف حد من أولادك بيتألم وهو بيمر بدرس من دروس الحياة" كلمات تبدو بسيطة ولكنها رسالة أخرى جاءت في وقتها تماماً، تخبرني أن الألم هو أول خطوة للتعلم وشدّ العود والنضج، ربما ذهابك للحضانة هو أول ألم تختبرينه يا صغيرتي في انفصالك عني عدة ساعات يومياً...ولكنه أول خطوة في تكوين شخصيتك كما ينبغي. اليوم عُدت أذكرني بالعهد القديم، تصفحت كتيب التدوينات التي كتبتها لكِ منذ كنتِ جنين في رحمي، لمست كلماتي التي كنت أعدك من خلالها أنني سأربيكِ فتاة قوية مستقلة تستطعين الحياة دوني بعدما أذهب من الدنيا.. وتستطعين الحياة معي بروح وقلب فتاة قادرة على مصاعب الدنيا... والآن أول خطوة لنا خارج حدود دنيتنا الصغيرة وأول اختبار حقيقي لي في تنفيذ الوعد... مديرة الحضانة تخبرني بجملة ستظل في ذهني للأبد ما حييت "أحيانًا لازم إحنا الأول نصدق إن ولادنا بيكبروا ونثق فيهم علشان يثقوا في نفسهم...لما تبطلي خوف...هتبطل عياط" ربما لن أستطيع منع نفسي من الخوف كأم، ولكنني سأحرص بعد الآن على ألا أجعل هذا الخوف يصلك أو يعرقلك عن النمو بثقة وحب واستقلال. صغيرتي فريدة.. لازلت على عهدي معكِ، سأحافظ على مسافة ألا أترككِ تسقطين دون أن تنهضي مرة أخرى وألا أجعلكِ تعتمدين عليّ تمام الاعتماد، أنا هنا لأجلك دائمًا ولكنكِ لست ملكًا ليّ في النهاية.. يجب أن أعلم هذه الحقيقة جيدًا.