قصص أمهات
نزحت.. تهجرت.. فقدت بيتي.. أدركت أن الموت لحظة!
قصة مادلين من غزة
في غزة، لطالما عشنا حياة مليئة بالصعاب إلا أن الرضا كان يملأ حياتنا. نسعى ونحاول لصنع مستقبل أفضل لأطفالنا، نعمل كالنحل لا نكل ولا نمل فهذه هي الحياة وخاصة في قطاع غزة، حياة مليئة بالتحديات الاقتصادية والسياسية.
بعد ٧ أكتوبر تغيرت حياتنا إلى الأبد...
ليلة ١٠ أكتوبر كانت أصعب ليلة في حياتي. كان منزلنا أنا وأطفالي في حي الرمال، ضربوا الحي بأحزمة نارية ولم يتبق مكان آمن في غزة. بمجرد أن تسقط القنابل على حينا شارع الرمال تتحول المنطقة كلها إلى ركام. أذكر أنها أمطرت يومها وتمنيت أن تتوقف الطائرات عن العمل، إلا أنها عادت وبشدة!
في صباح اليوم التالي، لم أصدق أننا ما زلنا على قيد الحياة، بكيت لأننا نجونا من هذا القصف المروع. تساءلت يومها: "أين الإنسانية؟ أين حقوقنا؟ نحن مجرد أشخاص مدنيين أبرياء."
عندما اشتد القصف أكثر من قبل..
اتجهت مع عائلتي نحو الجنوب، كان يوم ١٣ أكتوبر، فقد أصبح الوضع خطيراً جداً وتواصلت معنا القوات الإسرائيلية على هواتفنا المحمولة لتطلب منا الإخلاء إلى الجنوب، قائلة: "اتجهوا إلى الجنوب لسلامتكم وسلامة أطفالكم فالمقاومة تخرب حياتكم وحياة أطفالكم."
تركت غزة وودعت بيتي لآخر مرة!
لم أعلم أن هذا المشوار بداية لترحيل أبدي، قلت في نفسي يومين وسيهدأ الوضع وسأرجع إلى بيتي. لم آخذ شيئاً مهماً، حرفياً.. سوى الأوراق الثبوتية والحلي التي ألبسها عادة، لم أكن أدرك أنه الوداع.
توجهنا إلى الجنوب وكان هناك مئات من الناس النازحة، منظر مروع ذكرني بالنكبة التي سمعت تفاصيلها جيداً من جدتي لكن أعيشها أنا الآن. أرعبني كم الدمار الهائل الذي شهدته من غزة إلى الجنوب وأدركت وقتها أننا نتجه إلى المجهول.
نزوحنا إلى الجنوب لم يكن آمناً أيضاً، فقد توالى القصف على الجنوب بالتزامن مع الشمال والوسط. افترشنا الأرض ونمنا وأحسست بالبرد في مفاصلي، ولكن شعور الخوف كان يطغى على أي مشاعر أخرى.
عشت تفاصيل مأساوية وصعبة وكانت الصلاة تطبطب على قلبي وصيام يومي الاثنين والخميس على نية الفرج دواء لي يمدني بالصبر. كنت أتمنى أن تقف الحرب لكنها كانت تزداد وطيسا.
يوم ٢٣ أكتوبر الساعة الخامسة صباحاً، أيقظتني ابنتي لآخذها للحمام وأعدتها إلى فراشها على الأرض وإذ فجأة رأيت زجاجاً يطير نحوي فصرخت وتوارت من حولنا أطنان من الغبار وسقطت علينا الحجارة. نجونا -بفضل الله- من موت محتم؛ تم قصف المنزل الذي يفصلنا عنه نصف متر، حيث ضُرب بثلاثة براميل متفجرة واستشهد كل من في البيت... 12 نفراً! تطايرت علينا أشلاءهم وبقي ابن وحيد لهم فقد ساقيه ورقد في المستشفى.
أدركت وقتها أن الموت لحظة!
لقد شاهدت الموت واشتممت رائحته، أدركت كم أن الروح غالية وأن الشهادة امتياز رباني واصطفاء، كل ليلة في الحرب احتضن أطفالي وأحصّنهم (أقرأ آيات قرآنية تحميهم) وأنا أعلم جيداً أنه قد لا يكون هناك غدٌ وكنت أتمنى أن نموت سوياً حتى لا يبقى أحد فينا يتألم على أحد.
عشنا أيام عصيبة بلا ماء ولا كهرباء ولا غاز ولا أكل. طهينا على الحطب وكرهت حلول الليل الذي بات أكبر مخاوفي. كرهت صوت الطائرة الزنانة.. كرهت صوت الصواريخ وكرهت صمت العالم فنحن بشر لسنا مسلسل!
في هذه الحرب، بكيت ألماً جوعاً خوفاً، فقدت الكثير من الأصحاب رشدي عريب ميسرة نورا وأطفالها وشروق وهناك الكثيرين مفقودين لا أعلم عنهم شيئاً، هذه الحرب لن أنساها ما حييت..
نزحت.. تهجرت.. فقدت بيتي..
سأتذكر التهجير والذل... سأتذكر الممر الآمن الذي قتل فيه أحبابنا.. سأتذكر كل مجزرة صارت سأتذكر الصمت العربي والإسلامي فقد عشت أهوال يوم القيامة في بلدي ورأيت الناس تباد ولا أحد يرى ولا يسمع...
أحمد الله لأنه كتب لي عمراً جديدا لأن زوجي يحمل جواز سفرٍ مصري وتمكنا من الخروج من غزة، والآن سنبدأ حياتنا من الصفر.. من القاهرة.
تمنوا لنا السلامة وأن ينجو جميع أهلنا وأحبابنا من الحرب لنلتقي بهم قريباً. أنا لست نفسي السابقة تغيرت كثيراً وتعلمت كثيراً. هذه الحرب كاشفة، أعادت ترتيب أولوياتٍ في حياتنا كأفراد وجماعات.
*الصور مختارة من مواقع اخبارية وهي تعبيرية لتقريب الرواية إلى القارىء.