قصص أمهات
في قطاع غزة .. هل لحلم أريج بقية ؟
أنا أريج سلمي ، أم لثلاث أطفال من قطاع غزة - منطقة الشيخ رضوان، ريادية أعمال ومدير و مؤسس تنفيذي لمشروع المنصة العربية.
مثل أي أم، استيقظتُ في الصباح لأُعدّ أطفالي للذهاب إلى المدرسة، وفجأةً بدأتُ أرى أشياء غريبة في السماء، قذائف وصواريخ تتطاير في سماء قطاع غزة ومن هنا بدأت القصة في السابع من أكتوبر 2023 ، هذا الحدث الذي غيّر حياتنا تمامًا وبشكل جذري حيث انطلقت الحرب على قطاع غزة.
منطقة الشيخ رضوان التي كنت اسكن بها كانت بلا شك محط للأنظار حيث انتشرت الأخبار عنها في كل مكان في العالم. حاولتُ قدر الإمكان البقاء ثابتة في منزلي لمدة تتراوح ال 40 يومًا، مصممة على عدم الانتقال، ومؤكدة لنفسي دوماً بأن ليس لدي أي سبب يدفعني للخروج من منزلي. كنتُ على دراية و ثقة تامة بالوضع العام لي ولأسرتي، وبمن حولي و رغماً عن كل الدعوات التي وصلتنا من الاحتلال لمغادرة المنزل بالسرعة القصوى، إلا أنني رفضت وأصررت على حماية أطفالي والبقاء في المنزل.
خلال هذه الـ40 يوماً، شهدت كل أطياف الخوف الموجودة في الحياة. الليل كان يبدو كالنهار بفعل قنابل الإنارة والقصف العشوائي، وكانت الشظايا تتساقط على سطح البيت والنوافذ تتحطم، وغير ذلك الكثير.
بذلنا جهودنا القصوى لجمع كل الاحتياجات الأساسية للحياة وذلك لنتمكن من البقاء والصمود في المنزل الى أقصى حد ممكن، وأن لا نعرض حياتنا للخطر بالخروج والتجول للبحث عن المؤن. كنت أرى البيوت من حولي تتدمر، والناس تخرج من منازلها و تنتقل من الشمال والى الجنوب لتعيش في الخيم. كنت أقول إنني سأبقى قوية و صامدة في منزلي حتى اللحظة الأخيرة، لكن الأمور اتخذت منحى غير متوقع!
في الخامس عشر من نوفمبر، تعرض منزلي للقصف، وكان من نعمة الله وحده أنني لم أكن في منزلي الذي يقع في الدور العلوية في ذلك الوقت. كنا نتناول الطعام في الطابق الأرضي عندما تعرض المنزل للقصف بشكل مباشر. نطقنا الشهادة جميعاً ظناَ منا انها آخر لحظة في حياتنا ! ومن ثم اتخذنا قرارًا سريعًا بالفرار من المنزل الى الخارج والحمدلله نجحنا في الهروب ! عند التفكير في الأمر الآن ، لو كنا في الطابق العلوي لكنا استشهدنا بالفعل لكن كوننا في الطابق السفلي و في اللحظة المناسبة جعلنا نحظى بحياة جديدة!
لا يمكنني ابداً نسيان كلمات ابني، الذي يبلغ من العمر 7 سنوات، و البيت ينهار فوق رؤوسنا والنوافذ تنفجر في وجوهنا. كان ابني يمسك بيدي ويقول لي: "يا أمي، سنموت"، وأنا أرد عليه: "لا يا حبيبي، لن نموت". كنت أطلب منه الصلاة والاستغفار وقراءه الدعاء، رأيته يقرأ بصوت عالٍ والقصف فوقنا، ويستمر في القراءة والخوف يسيطر عليه، ولكني كنت أشجعه قائلة: "لا تقلق، لا تخاف، سنعيش، سنبقى معًا". فيما أنا فعلاً مرعوبة جداً، وأشعر أنه ربما هذا سيكون آخر يوم في حياتي.
لم يكن لدينا سوى الله و بعضنا البعض أثناء الهروب والركض في الشارع، نحاول البقاء سويًا لنشعر بالأمان.
سمعنا صوت من بعيد ينادي علينا "ادخلوا ، ادخلوا! أنتم آمنين هنا في هذا المنزل بإذن الله " ، جلسنا في ذلك المنزل لمدة 10 دقائق ، لكن للأسف تم قصف المنزل الجديد فهربنا مرة آخرى..
خرجنا نركض في الشارع لا ندرى الى أين نذهب، وفي هذه المرحلة قرر زوجي بشجاعة الذهاب الى منزلنا مرة أخرى ليأتي بالسيارة ويتمكن على الأقل من توصيل الأطفال ووالدته الكبيرة في السن الى مكان آمن، نجح بإحضارها وذهب معهم واتفقنا ان نلتقي في مكان محدد بعد فترة معينة.
فقدنا الاتصال مع زوجي بسبب الشبكة ، فقررنا الاتجاه إلى المكان المحدد والمتفق عليه من قبل وبينما كنا نركض في الشوارع ونسأل الناس، كان الليل قد أتى، وكانت معظم البيوت خالية. وقفنا في الشارع، وأنا كنت أمسك بيد ابني واخت زوجي، وبدأنا ننادي بصوت عالٍ: "يا ناس، يا ناس!"، ولكن لم يستجب أحد لفترة طويلة من الزمن حتى ظهر شخص من أحد المنازل. أخبرناه بأننا لا نعرف أين نحن وكيف نصل الى وجهتنا المحددة، أخبرنا الرجل "اتجهوا هكذا، يمينًا ثم يساراً ." وفعلاً اتبعنا الطريق ووجدنا زوجي في السيارة يمشي بسرعة عالية و يبحث عنا !
اعتقد ان هذه اللحظة تاريخية و لن انساها بحياتي ، كنا نركض و نصرخ و ننادي على زوجي لينتبه لوجودنا و تمكنا أخيراً
من ركوب السيارة وانطلقنا نحو المنزل الجديد لننزح للمرة الثالثة.
تلك الليلة كانت سيئة للغاية، ولكن بفضل الله، نجحنا في الخروج منها سالمين وبخير. وعندما أتى الصباح ، قررنا أن نغادر إلى الجنوب، حيث كانت عائلتي قد استقرت منذ بداية الحرب. حاولت التواصل معهم كثيراً لكن الشبكة لم تكن مثالية ابداُ ! تمكنت بصعوبة الاتصال بصديقه لي تسكن في مكان أبعد و وطلبت منها اخبار عائلتي بالوضع الحالي لنا .
في تلك اللحظة، كان هناك ممر آمن يتم إعداده من قبل الاحتلال للنزوح ، وقد كنا سمعنا الكثير من الشائعات حوله، مفادها أنه لا يُسمح لك بحمل أي شيء معك في الطريق، ويمكن أن يتم استهدافك إذا تحركت يمينًا أو شمالًا، أو أنك قد تجد أشياء غريبة على الطريق مثل بقايا الجثث والأشلاء. في هذا الممر، كان من غير المسموح استخدام السيارات و لذلك تركنا السيارة في دوار يسمى دوار الكويت بدأنا بالمشي.
رغم أن المسافة لم تتجاوز 500 متر، إلا أنها استغرقت حوالي 10 ساعات لنجتازها، وخلال هذه المسافة، كانت هناك دبابات وقوات الاحتلال منتشرين في كل مكان وقناصين وجثث مرمية. كانت الرائحة الكريهة للأموات والذبان تملأ الجو، ولكن كانت عيوننا متجهة إلى الأمام وكلنا ثقة بالله، وبفضله تمكنا من تجاوز هذه المرحلة.
كان التنقل في هذا الممر غير سهل أبدا حيث انه يتم توقيفك عند المشي للتفتيش على الهويات و التأكد من الشخصيات وللأسف تم أسر الكثير من الشبان والفتيات بهذه الطريقة ، كان يتم اخيارهم عن بعد " أنت الذي ترتدي الجاكيت الأحمر ، اخرج من الصف".
بالطبع، لم يكن هناك وسائل نقل عامة، لذا اعتمدنا على المشي أو استئجار الحمير.لم يكن لدينا مبلغ مالي كبير يمكننا استخدامه في هذه المرحلة لاننا لم نخرج من المنزل الا بما هو قيمته 300 شيكل . عندما وصلنا إلى دوار النصيرات، كانت المبالغ التي لدينا لا تكفي لدفع تكاليف التنقل بالسيارة،على الرغم من وجود سيارات في هذه المرحلة يمكنها مساعدتنا.
لحسن الحظ، تمكنت من الاتصال بعائلتي، وطلبت من أخي أن يأتي ليأخذنا وبعد 10 دقائق فقط، جاء وأخذنا، ووصلنا بسلام إلى منطقة الوسطى والى المنزل الذي تسكن به عائلتي الآن.. لم يكن لدينا أي شيء سوى الهويات الشخصية وجواز السفر و هواتفنا النقالة!
أشعر الآن بالتأكيد بالمعاناه الشديدة التي يشعر أهل الشمال من فقد المعونات وقله الطعام وخصوصاً مع وجود الأطفال، اتذكر أثناء فترة تواجدي في منطقة الشيخ رضوان، لم يكن هنالك طحين ولا مخابز، تمكنا يوم بالصدفة من تأمين كيس طحين الذي كان لا يتجاوز سعره ال 40 شيكل بمبلغ 250 شيكل وبطبيعة الحال،شاركناه مع الجيران لانه علينا جميعاً ان نتعاون و نتشارك.
مرت فترة في منطقة الوسطى حيث اقتحمت قوات الاحتلال مناطق المغازي وبريج والنصيرات، وبدأوا في إفراغ البلوكات (الأحياء) في مناطق الزوايدة ودير البلح. كنا 34 شخصًا في منزل لا تتجاوز مساحته 120 مترًا مربعًا.
لا يمكنني توضيح التفاصيل اليومية لحياتنا، وكيف نتعامل مع الطعام والشراب والطهي وتسخين الماء وغيرها، لكن تخيلوا 34 شخصًا يعيشون في هذه المساحة الضيقة في نفس المكان اضافة الى ان المعونات والمساعدات والكوبونات توزع فقط لساكني الخيم وبالتالي لا يصلنا منها شيء.
في يوم قالوا لنا إن البلوك رقم كذا سيتم إفراغه، وهذا البلوك كان الذي نعيش فيه..اشترينا خيمًا وبنيناهم في منطقة غربية وانتقلنا إليها. قُطعت الاتصالات ونحن في الخيمة على القطاع لمدة 4 أيام، ولم نكن نعرف ماذا يحدث وماذا نفعل وأين الممر الآمن. كانت أيامًا سيئة للغاية، وبعد ذلك قالوا إنهم انسحبوا من منطقة الوسطى.
انتمائي إلى قطاع غزة كبير جدًا، ولم يخطر لي لحظة واحدة بالهجرة أو المغادرة منه. بالرغم من كل التفاصيل والتعب والصراع، إلا أن أبنائي الآن هم نقطة ضعفي. ابني الأكبر يدرس في إحدى مدارس غزة التابعة لجمهورية مصر العربية، ويمكنه الآن استكمال دراسته في مصر، مما قد يؤمن له مستقبلًا أفضل. بصراحة، إذا كان أي من أفراد العائلة في أمان، ستشعر بالراحة وبأن العبء قد اختفى الى حد ما. ولكن، للأسف، التنسيق للخروج من المعبر مشكلة.
يكلف التنسيق 5000 دولار للشخص الواحد، وهذا يعني أنه إذا أردت السفر مع عائلتي، فإنني وحدي وعائلتي، وهم 5 أشخاص تقريبًا، سيكلفنا حوالي 25000 دولار، وهذا بدون تكاليف السفر والمصروفات اليومية وتكاليف المعيشة التي يجب أن أتحملها. لهذا السبب، قررت القيام بجمع التبرعات من خلال GoFundMe لأتمكن من السفر مع عائلتي الصغيرة وجزء من بقية العائلة مثل والدي، الذي يحتاج إلى عملية قلب عاجلة جدًا وابنتي اختي لاستكمال دراستهم في مصر وأخي وأطفاله المرضى، لذا بدأت أفكر في وضع المبلغ الأدنى الذي قمت بحسابه على منصة GoFundMe وهو 95000 دولار، لأتمكن من مساعدة ليس كل أفراد العائلة ال 34 شخص، بل فقط أجزاء منها التي تحتاج إلى السفر بشكلٍ عاجل لاستكمال حياتهم في مصر.
نصيحتي اليوم إلى مجتمع 360Moms وكل الذين يتابعون قصتي من جميع أنحاء العالم. اشكروا الله يومياً على كل تفاصيل حياتكم ، اشكروا الله على الحياة اليومية والروتين الذي قد تعتقدونه ممل .اشكروا الله على الاستيقاظ في الصباح ، تحضير الأطفال للمدرسة، العمل والعودة للمنزل لتناول الطعام ومن ثم تكرار هذا الروتين يوم بعد يوم.
نحن كنساء وأمهات في قطاع غزة، نتمنى مليون مرة أن نعود إلى هذا الروتين اليومي الممل، نحن نتمنى فقط العودة إليه.
وعلى الرغم من المأساه التي اعيشها والأسى إلا أنه خلال الشهر الماضي وصلتني أخبار مفرحة عن منصتي وعملي الريادي. كنت أتنافس على الفوز بجائزة أفضل محتوى عربي رقمي إلا أنه كان علي تقديم عرض تعريفي عن عملي في يوم المسابقة ولم أتمكن من ذلك بسبب غياب الانترنت وعدم قدرتي على توصيل اللابتوب بالانترنت بسبب انقطاع التيار الكهربائي، تم تسجيل العرض التقديمي بواسطة رغدة من مجموعة She Wins Arabia التي قدمته بالنيابة عني. وبفضل الله، تم اختياري للفوز بالجائزة، وتمت دعوتي للسفر إلى لبنان - بيروت لاستلام الجائزة. ولكن، بسبب الظروف الراهنة للحرب وصعوبة تنسيق عبور المعبر قامت رغدة بالذهاب بدلاً عني واستلام الجائزة. الحمد لله…
نحن اليوم في اليوم الـ 153 من حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة. أتمنى السلامة للجميع. اليوم أنا موجودة، وغدًا الله أعلم إذا كنت سأكون موجودة أم لا. كل يوم نحن نتحدث يومياَ عن عقد نية الرباط استعدادا إذا حدث شيء واستشهدنا، فليرحمنا الله كشهداء. لا نفقد الأمل ابداً ولا نتشائم، ونستمر في القول إن شاء الله الغد أفضل. إن شاء الله سأجمع التبرعات من خلال GoFundMe وسأسافر وأبدأ حياة جديدة!
"الحياة لا تنتهي عند نقطة معينة، والموت هو الذي ينهي الحياة فقط. وطالما نحن على قيد الحياة، سنستمر في النضال والتمسك بالأمل."