مذكرات
في غزة... سرعان ما تحول حلمي إلى كابوس!
أنا شيرين عمري 28 سنة من مدينة غزة المحاصرة، كنت أحاول تأسيس مشروعي الخاص الهادف لتعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها، والعمل على تمكين معلمات اللغة العربية لإيجاد فرص عمل وكسب دخل لهن ولأسرهن، في ظل شح فرص العمل للخريجين والخريجات في غزة.
الشهر الماضي- سبتمبر 2023-،تمت دعوتي من قبل مؤسسة دولية للانضمام إلى رحلة تعليمية لرياديات الأعمال الفلسطينيات، قمت بزيارة ألمانيا لأول مرة في حياتي، قابلت الكثير من النساء الملهمات، وعدت إلى مدينتي غزة متحمسة جداً لإطلاق مشروعي وتحقيق جزء من أحلامي، ولكن سرعان ما تحول الحلم والحماس إلى كابوس ومعاناة!
وضعت الكثير من الخطط لشهر أكتوبر، لكن باتت خطتي الوحيدة الآن هي البقاء والنجاة من هذه الإبادة والعيش بهدوء وسلام أنا وعائلتي.
شهد العالم أجمع ما حدث في السابع من أكتوبر، لكن أبداً لم يشاهدوا معاناتنا طيلة السنوات الماضية، لم يعلم العالم أننا شهدنا الحروب في طفولتنا، لم ننعم بالسلام كباقي أطفال العالم، رأينا الكثير من المعاناة التي يصعب إيجازها في فقرة أو صفحة، وأصبحت شابة ولا زلت أرى المعاناة والحروب التي لم ترو لكم الصحف تفاصيلها، ما يصلكم هو العناوين فقط!
أما تفاصيل المعاناة والمشاهد التي نعيشها نحن من نستطيع روايتها، منذ اليوم الاول من الحرب، اعتقد العالم بأنها مثل الحروب السابقة لكنهم لا يعلمون بأنها إبادة جماعية، هجوم انتقامي، ليس من حماس كما يدعون، بل من المدنيين، الاحتلال لديه من العدة والعتاد والأسلحة ما يمكنهم من اغتيال من يريدون دون إلحاق الضرر بالمدنيين من الأطفال والنساء، ولكنهم تعمدوا هذه الإبادة الجماعية والعقاب الجماعي على مسمع ومرأى العالم أجمع ولم يمتنعوا عن استخدام الأسلحة المحرمة دولياً.
شهدنا الكثير من الحروب واعتدنا على سماع أنواع متعددة من القذائف، لكن المستخدمة في هذه الحرب مختلفة تماماً، حتى أنها تترك الشهداء أشلاء أو أجسام محروقة، وكأنها تحتوي على كيماويات مشتعلة، القذيفة الواحدة تستطيع تدمير حي بأكمله، و هذا ما يوقع الكثير من الضحايا في المنزل المستهدف والمنازل المجاورة أيضاً، المشهد أعظم مما تشاهدونه على التلفاز والصوت مزلزل، نسمع الصوت ونشعر وكأنه زلزال أصاب المنزل، تتشقق الجدران، تتكسر النوافذ، نشعر بضغط الهواء الذي يحرك اجسامنا بشكل لا إرادي، لا أحد سيشعر بما نشعر به الا بعد التجربة، وأنا لا أتمنى هذه التجربة لأي أحد في العالم، لأنها قاسية جداً واجرامية وغير إنسانية.
بدأت رحلة التنقل والنزوح...
قاموا بقصف الحي الذي أسكن به، بالبراميل المتفجرة والحزام الناري، كنا نجلس أنا وأسرتي وأطفالنا في زاوية في المنزل، حتى إن متنا نموت سوياً، ابن أختي الأكبر قال لوالدته "ماما أنا ما بدي أستشهد" أوجعني كثيراً ما قاله، وأن أطفالنا يعيشون هذا الألم وهذا الخوف. قمنا أنا وأسرتي بالانتقال تحت القصف ليلاً من منزلنا إلى منزل آخر في حي آخر.
وجدنا بأن هناك خطر أيضاً، حيث لا مكان آمن في غزة، قمنا بالنزوح مجدداً الى منزل آخر في حي آخر، حتى قاموا بإنذار جميع سكان غزة بالنزوح إلى جنوب القطاع.
فقمنا أنا وتسع أفراد من أسرتي وثمانية أطفال ببدء النزوح، لكننا لم نستطع إيجاد أي وسيلة نقل لإيصالنا إلى الجنوب، فحركة المواصلات مشلولة تماماً في غزة، فبدأنا بالمشي في الشوارع تحت القصف، حتى نتمكن من العثور على سيارة، لكن لم نجد، اشتد القصف، فلجأنا إلى احدى المستشفيات في غزة، وجدنا هناك العديد من النازحين إليها. وهناك رأينا مشاهد مروعة لم نتمكن من حجب أعين أطفالنا عن رؤيتها من آثار قصف لمنازل فيها عائلات.
للأسف لم نتمكن من العثور على سيارة، بقينا عالقين في المستشفى نجلس على الأرض، لا نستطيع النوم ولا نستطيع دخول الحمام لأنه كان مزدحم جداً حيث يصطف العديد من النازحين أمامه، وصوت القصف يدوي في كل صوب حول المستشفى، وأطفالنا ملقون على الأرض دون غطاء، كنا نعد الثواني والساعات كي يأتي النهار.
تمكنّا صباحاً من العثور على سيارتين، بدأنا النزوح، ولكن للأسف في الطريق تعطلت السيارتين وقمنا بإصلاحهما مرات عديدة، دعونا كثيراً كي تسير السيارات، رأينا مشاهد مبكية للناس وللقافلة التي سبقتنا النزوح في اليوم السابق والتي تم استهدافها من قبل الاحتلال، وصلنا للجنوب بعد عناء، وردتنا أخبار بأن منزلنا تهدم بفعل القصف الشديد والمتكرر في المنطقة.
قمت بسؤال ابنة أختي التي تبلغ من العمر تلات سنوات، أين دميتك الباربي التي قمت بشرائها لها من المانيا، فردت قائلة لقد قصفوها، لا أعلم كيف سنحمي أطفالنا، لا يوجد لدينا ملاجئ أو مخابئ، حتى بعد نزوحنا الى الجنوب، لم نسلم من القصف المحيط بنا في كل مكان، حقاً لا يوجد مكان خالي من الغارات او القصف، كل القطاع تحت القصف، المستشفيات، المسعفين، الاعلاميين، المساجد والكنائس، حتى المخابز والمولات التي يتوافد عليها الكثير من الناس للحصول على الخبز والأكل.
تخيل معي حقيقة ما نمر به...
تخيل... بأن تستيقظ الساعة الرابعة فجراً حتى تكون أول الصافين في طابور أمام أحد المخابز؟ (في احدى الأيام استيقظنا لم نجد والدتنا في المنزل الذي نزحنا اليه، أدركنا بانها ذهبت لكي تصطف في طابور المخبز وكان هناك قصف عنيف في المنطقة، أخافتنا كثيراً، ودعونا الله كثيراً بأن ينجيها ويردها لنا سالمة، و الحمد لله عادت وأخبرتنا عما حدث معها) أو أن تمشي أكثر من 6 كم تحت القصف حتى تقوم بتعبئة مياه صالحة للشرب أو حتى غير صالحة للشرب؟ (قبل يومين توفى أحد الأشخاص بسبب سقوطه من أعلى سطح المنزل حيث كان يحاول تعبئة الماء لأسرته)
لقد قضيت يومين بدون شرب الماء لقلته، تخيل بأننا خرجنا من منازلنا لا نملك الا الملابس التي خرجنا بها؟ وتركنا كل شيء خلفنا!
تخيل... بأن طفلك يمرض ولا تستطيع ايجاد الدواء له! (طيلة أيام الحرب يعاني أطفالنا من السخونة وألم المعدة والتسلخات الجلدية)
تخيل...أنك تبحث عن أي مكان يوجد به طاقة شمسية حتى تتمكن من شحن الهواتف وبطاريات الاضاءة؟ تخيل بأن تفقد الاتصال بأقاربك وأصدقائك والعالم، بسبب قطع الكهرباء والانترنت والشبكة، لا تستطيع أن تعلم ما يحدث حولك، لا نستطيع الاتصال بالدفاع المدني او الإسعاف.
تخيل... بأننا لا نستطيع طهي الطعام لعدم وجود غاز الطهي، وبالكاد نستطيع إشعال الحطب للطهي والخبز، خوفاً من السماء الملبدة بالطائرات.
تخيل... بأن البضاعة التي كانت متواجدة في المحال التجارية نفذت، وبأن أسعار ما تبقى من طعام تضاعف أربع مرات عن سعره الطبيعي.
تخيل... بأنني وأسرتي قمنا بالنزوح ثمانية مرات، عشنا كل أنواع النزوح، في المستشفى وفي الخيام وفي المنازل المكدسة بالنازحين؟
تخيل... بأن هناك الآلاف من الناس والمفقودين تحت الأنقاض، تخيل بأن هناك جثث لم يتم دفنها وجثث ملقاة في الطرقات، تخيل تعطل مضخات الصرف الصحي وحجم الكارثة البيئية والصحية التي نعيشها، تخيل حجم مخلفات الحرب من القذائف المحرمة دولياً والفسفور، تخيل أن كل هذا واقعنا وليس خيال..
تخيل... بأننا نكره قدوم الليل، لأن فيه تتضاعف الهجمات على القطاع ويتضاعف الرعب والخوف، لا نستطيع النوم وإن نمنا فلا ننام هانئين، نسمع الصوت المزلزل للمنزل، وصوت صراخ أطفالنا وبكائهم من هول ما يسمعون، والرائحة التي نشمها والدخان والغبار الذي يعم أجواء المنزل..
تخيل... بأنك ترى المنازل المجاورة لك تسقط بشكل مفاجئ فوق رؤوس ساكنيها من النساء والأطفال والشيوخ، تخيل بأن ترى جثث وأشلاء لأطفال ونساء تحت الركام، ومصابين أجسامهم تحترق.
تخيل... بأننا لم نعتاد، تخيل بأننا رغم كل هذا نستيقظ على أمل بأن يتوقف هذا الكابوس وأن تتوقف هذه الابادة، أن يرانا العالم ويوقف هذه الحرب، أشعر وكأن العالم صم أو عمي أو كأنهم يشاهدون مسلسل خيالي ولا يتحركون ساكناً، وكأنهم لا يمتلكون قلباً يشعر أو عيناً ترى المجازر والجرائم، حكام الدول تدين وتندد وترفض وتسمح، كلها شعارات وخطابات لم تجدِ نفعاً، لم تتوقف هذه الابادة، لم يوقفوا هذا رغم أنهم قادرون على ذلك!!
لا أحد يشعر بما نشعر به، لأن لا أحد يعيش ما نعيشه، أو يمر بما نمر به...
كل من لا يريد إيقاف الحرب عليه بأن يغمض عينيه ويتخيل بأن أسرته تحت الركام وزوجته وأبنائه أشلاء، من ثم يفتح عينيه ويرى بأن هذا حال الأطفال والنساء في غزة، يدّعون الإنسانية والسلام والرفق بالحيوان، ولكنهم يسمحون بارتكاب جرائم حرب في غزة، يسمحون بالإبادة الجماعية، ثم يحتفلون على مرأى الشاشات بأنهم استطاعوا إدخال القليل من المساعدات إلى غزة من باب الإنسانية
لا نريد المساعدات، نريد وقف هذه الحرب عاجلاً غير آجل...
قصص من واقعنا... لعل وعسى يتحرك العالم!
هل تعلمون كم عدد الشهداء من الأطفال والنساء؟ هل رأيتم جثثهم الأشلاء والمحروقة؟ هل رأيتم المصابين؟
"إحدى النازحات في مستشفى الشفاء أخبرتني بأن هناك مصابين يخرج من مكان إصابتهم الديدان بسبب عدم تمكن الطاقم الطبي من المتابعة بسبب عدد المصابين المهول "
هل رأيتم المستشفيات التي تجري العمليات بإضاءة الهاتف الخلوي، وتستخدم الخل للتعقيم؟ هل رأيتم عدد مرضى السرطان والأمراض المزمنة والأطفال حديثي الولادة في الحاضنات؟ عدد النساء الحوامل وعدد الأطفال الذين وُلدوا في الحرب؟
لا أعلم إن كنتم ترون أو حتى تتخيلون حجم الكارثة الإنسانية والبيئية التي يتعرض لها سكان القطاع!
هل رأيتم حجم الدمار الذي خلفه الاحتلال في كل المنشآت المدنية والبنوك مما تسبب بقطع كافة الخدمات؟ هل رأيتم عدد النازحين بالمدارس والمستشفيات والخيم؟ هل رأيتم التغريبة الفلسطينية وذل النزوح؟
"إحدى الأمهات النازحة مؤخراً روت ما حدث معها في طريق النزوح أو "الممر الآمن" كما يسمونه، حيث قام أحد أطفالها بسؤالها: "يما أنا تعبت وأنا رافع إيديا، لو نزلتهم بطخوني؟"، كما أخبروني بأنهم شاهدوا أشلاء ملقاة في الطريق."
كم حمدت الله لأننا نزحنا مبكراً، حمدت الله أيضاً لأنني لم أتزوج وليس لدي أطفال، لن أطيق عليهم هذا كله، أرى معاناة خواتي المتزوجات مع أطفالهم، ومحاولاتهم العديدة للتخفيف عن أطفالهم وتوفير احتياجاتهم الأساسية رغم ضعف الإمكانيات وسوء الوضع، لدينا ثمان أطفال، أكبرهم عزمي يبلغ ست سنوات، عيد ميلاده السادس في 27 أكتوبر، طالب والدته بالاحتفال وجلب الهدايا كالمعتاد، وأخبرته إذا انتهت الحرب فسنقوم بذلك.
أصغر أطفالنا الرضيعة يُمنى تبلغ أربعة شهور، تبتسم لنا كثيراً وتحيي الأمل فينا مع كل ابتسامة، أشعر بأنها تدرك بأن المشاهد اختلفت، قمت بالتقاط صور لها أثناء نزوحنا إلى المشفى، حيث كانت تنظر إلى الناس حولنا محدقة عينيها وكأنها تتساءل ماذا يحدث؟ من الذي جاء بهؤلاء؟ أين أنا؟ ما هذا العدد المهول من الناس؟ لماذا نحن هنا؟ ماذا يجري؟ اختلف عليها المكان والمشاهد والناس والبيئة المحيطة!
ياسين أيضاً رضيع يبلغ من العمر ثمانية شهور، قبل الحرب اكتشف الطبيب بأن لديه انغلاق مبكر في اليافوخ وتأخر في النمو والاستجابة السمعية والبصرية وارتخاء في العضلات والعمود الفقري، وقام بإجراء العديد من الأشعة، وطلب الطبيب بأن نقوم بإجراء بعض التحاليل التي للأسف غير متوفرة في قطاع غزة، فقام بإحالته الى الضفة الغربية، ولكن حالت الحرب قبل القيام بهذا، وأخته الأكبر سلمى أيضاً مريضة بحاجة للمتابعة والعلاج...
أرى كل يوم حزن أختي وخوفها على طفليها فهما بحاجة إلى متابعة حالتهم الصحية وإكمال علاجهم في الخارج، أرى أخواتي وهن يقمن بالاعتذار من أطفالهن كل يوم: "أنا آسفة إني عيشتكم هذه الظروف"
أسعد اللحظات التي أعيشها معهم...
عندما أقوم بفتح ستوديو الصور في هاتفي وأنادي عليهم "مين بدو يشوف صوره؟" يتسابقون من سيجلس بجواري ويكون الأقرب للهاتف، نقوم بتصفح صورنا ما قبل الحرب، ونتذكر سوياً المنزل وما به من ذكريات والمناسبات التي التقطنا فيها هذه الصور، وأقوم باختبار ذاكرتهم "وين هادي الصورة" "سرير مين هاد" "هاد الشارع وين"، كثيراً ما أسمع منهم هذه الجملة "بدنا نروّح"
أحدثكم عن والدتي أيضاً التي أخبرتنا مؤخراً عن نيتها لأداء مناسك العمرة أو الحج، وأنها قد همّت سابقاً بادخار القليل من المال حتى يتسنى لها أداء العمرة، ولكن للأسف في ظل هذه الظروف العصيبة قامت بصرف كل المبلغ الذي بحوزتها، شعرت بالحزن كثيراً عندما أخبرتني بذلك، ودعوت الله أن يسلمنا وينجينا كي أحقق رغبة أمي في أداء العمرة.
هذه قصتي إلى اليوم! إن أحيانا الله غداً سأكملها لكم...
لدعم شيرين وعائلتها...تبرعوا الآن
[تحديث] في اليوم السابع والستين من هذه الحرب
أحمد الله الذي نجانا من الموت مرّات عديدة، لن أستطيع أن أصف لكم ما حدث طيلة الأيام والأسابيع الماضية، لأننا من هول الأحداث فقدنا القدرة على التعبير أو حتى الكلام، لأن ما يحدث لنا يفوق أي لغة، كل يوم يمُر علينا نقول هذا الأشد، فيأتي اليوم التالي ويكون الأشد، أصبحت الحرب أكثر شراسة، والقصف لا يتوقف والخطر يزيد والأمان معدوم في كل مكان، ناهيك عن الوضع المعيشي الأكثر من مأساوي.
أما الوضع الصحي كارثي... كارثي جداً، وجاء فصل الشتاء الذي خشينا قدومه لأننا خرجنا من منازلنا بملابس الصلاة دون أي ملابس شتوية لنا أو لأطفالنا. مع كل هطول للأمطار ندعو الله بأن يوقف هذا الكابوس، فالنازحين لا مكان دافئ لهم ولا حتى طعام كافٍ يمدهم بالطاقة، نحن كنازحين مكدسين في غرفة مشتركة مع نازحين آخرين، لم تصل إلينا المساعدات أبداً، لا النقدية ولا العينية ولا حتى الطحين..
إن لم تكن المساعدات للنازحين فلمن تذهب؟ لا أعلم!
شاهدنا المعلبات التي تباع أمام مدارس الأونروا بأسعار مضاعفة والطحين الذي يباع بأسعار خيالية والذي اختفى بعد يومين... 28 يوم بدون طحين، المادة الأساسية التي تشبع أطفالنا وتمدهم بالطاقة.
بات السوق خالياً من السلع والبضاعة بشكل عام وإن وجدت فأسعارها مبالغ فيها، وما كنا نحمله من نقود نفذت في الشهر الأول من الحرب.
حاولنا إيجاد حلول وبدائل عديدة طلبنا الدقيق من مدارس الأونروا ولم يقدموه لنا بحجة أن المساعدات لا تكفي النازحين المتواجدين في المدارس، فكيف سيقدمون المساعدة للنازحين خارجها. حاولنا باللجوء إلى شراء القمح إلا اننا لم نستطع طحنه ليصبح طحيناً قابلاً للخبز، اصطف أخي في طابور أمام المطحنة متواجدة في محافظة أخرى، مكث 3 ليالي أمام المطحنة وتحت الخطر ولم يتم طحن القمح أبداً!
طهونا الأرز للأطفال – الذي لا نجده في الأسواق بسهولة- وحزنت جداً عندما قامت ابنة أختي بسؤال والدتها: "ماما وين اللحمة؟"، أجابتها مازحة: "الصهاينة أخدوا اللحمة والدجاج" فردت ابنتها قائلة: "حتى القراقيش أخدوها؟!" فضحكنا جميعاً من ردها، فأطفالنا يشتهون الكثير من الطعام الذين اعتادوا عليه، ويشتهون الحلوى التي فقدناها من كل الأسواق والبقالات. لا نجد إلا بسكويت المساعدات الذي يباع أمام مدارس الأونروا، محشو بالتمر ومعجون بالرمل!
ان كان هناك بديل عن الطعام المطبوخ فهو المعلبات، لكن للأسف جميع الأغذية المعلبة تحتاج الى الطهي حتى تشبع كل من يتناولها، وأيضاً الخبز يحتاج الى جمع الحطب واشعال النار المحملة بالدخان الذي يشبع صدورنا قبل أن نشبع معدتنا.
نحمد الله على كل حال، آملين بأن ينتهي هذا الكابوس حقاً، وأن يغير الله هذا الحال لأحسنه
المزعج بالنسبة إلي أننا لا نستطيع حماية أطفالنا وحجب أعينهم أو آذانهم عما يسمعون أو يرون، ولا نستطيع توفير ما يحتاجون، فبالكاد نستطيع طبخ وجبة واحدة أو جمع الحطب اللازم لطبخها. والماء اللازم للاستعمال، ولجلي المواعين، وبالكاد نستطيع توفير ماء للشرب، حتى أن المياه التي نشربها غير صالحة للشرب. قبل يومين، لم أستطع أن أغمض عيني من الألم الذي أصاب معدتي، شعرت بنار شديدة في معدتي وألم في ظهري، لا أعلم السبب حتى الآن.
وإن كنتم تتساءلون عن الهدنة وما حدث بها، فهي كانت للإحصاء، إحصاء عدد الشهداء والمفقودين، ومحاولة نشل من هم تحت الأنقاض، وفتح بيوت عزاء، وزيارة النازحين لبعضهم البعض. لم نستطع العودة إلى شمال غزة ورؤية ما تبقى من بيوتنا أو ذكرياتنا. لم يتسن لنا أن ننعم حتى بالأمان، كنا نخشى خرق الهدنة في أي وقت ومواصلة الحرب.
قمت في إحدى أيام الهدنة بالتطوع لتوزيع الملابس الشتوية على النازحين في محافظة رفح، خرجت لاستخدام المواصلات من المحافظة التي أتواجد فيها وصولاً لرفح، وأقصد بالمواصلات استخدام العير كوسيلة، فالسيارات محطمة والكثير منها يعمل على زيت الطعام الذي تملأ رائحة حرقه أرجاء القطاع والشوارع؛ رائحته خانقة ومؤذية للصدر.
في طريقي الى رفح، شهدت أطول طابور في حياتي، كان طابور لأناس يصطفون لتعبئة أنابيب الغاز، كا طويلاً جداً حتى أن السائق قال مازحاً: " رح تخلص الهدنة قبل ما يخلص الطابور!".
رأيت الناس الذين يبيتون في الشارع حفاظاً على دورهم، شاهدت الكثير من المنازل المدمرة، كنت أتمنى أن أرى البحر، متنفسنا الوحيد في قطاع غزة، لكن لم يتسنّ لي ذلك، رأيت تكدس ومعاناة النازحين في كل مكان وفي كل شبر على هذه الأرض.
والله شعرت بأنني في فيلم أو في حلم، لم أصدق بأن ما نعيشه هو حقيقة، لا بد أن هذا كابوس وأننا قريباً سنستيقظ منه!
في الثالث والعشرين من ديسمبر، أنا و 11 فرد من عائلتي و ثمانية أطفال ننزح للمرة التاسعة..
من مخيم النصيرات الى رفح، إلى اللامأوى، وإلى اللامصير، لا نعلم أين نذهب، نمنا ليلة في العراء، وليلة في احدى خيام المؤسسة الدولية، في احدى مخيمات النازحين، فور وصولنا للمكان، قام أطفالنا بالتصفيق والهتاف "مدينة الثلوج" "بحر" ظناً منهم بأن هذا الجبل وهذه الرمال هي رمال بحر أو مدينة الثلوج التي يرونها عبر الرسوم المتحركة، انهرنا عصبياً لرؤية أطفالنا يلعبون في الرمال الغير نظيفة والتي يعتقدون بأنها رمال بحر، نمنا ليلة في هذه الخيام، وفي الصباح الباكر تم طردنا من قبل المشرف على المشروع، المشغول بعمل خيم لأسرته وأقاربه، قمت بمجادلته فور قيامه بطردنا، بأن المكان غير لائق لنا أو لأطفالنا أو لصحة الأطفال كما يروجون في شعار مؤسستهم، لا يستطع أطفالنا قضاء حاجتهم مثل القطط والحيوانات، ولا نستطيع المبيت في خيام فوق رمال موبوءة كهذه، قمنا بمحاولة عمل خيمة أخرى، بات أطفالنا في العراء ليلاً،
في انتظار الانتهار من عمل الخيمة، لم ننتهي قبل منتصف الليل، كانت ليلة متعبة، نمنا في الخيمة رديئة الجودة، نايلون خفيف، اذا قمنا بمسكه يتمزق، ويهتز من شدة الريح، ومنطقة التخييم موبوءة، قمنا بتغطية الارض بكل ما نملك من غطاء، حتى اننا لم نشعر بالدفء، قطرات الماء المتكاثفة تتساقط علينا، استيقظنا لنجد بأن هناك حفر في الرمال تخرج منها الحشرات والصراصير والزواحف، انصدمنا صدمة شديدة، ثم قمنا باخراج الاطفال من الخيمة، أتت احدى الجارات لتسألنا انتم لديكم طفل يشكي لوالدته البرد طوال الليل قائلاً "ماما أنا بردان غطّيني"، قالت بأنها حزنت كثيراً لأجلنا،
وجدنا مياه عادمة وصرف صحي مكشوف مجاور للخيمة، كان ابن أختي الأصغر يبكي طوال الليل، لا نعلم ما السبب، وفي الصباح تعرض الطفل لنوبة اغماء وتشنج مفاجأة، قمنا بالركض لأي مستشفى قريب، المكان مزدحم، يعج بالخيام والناس، والمواصلات صعبة، وصل طفلنا الى مستشفى الاماراتي ومن ثم تم تحويله الى مستشفى ابو يوسف النجار ومن هناك تم تحويله الى المستشفى الاوروبي في خانيونس، المحافظة التي تتعرض للقصف الشديد والاجتياح البري، تم نقل الطفل بالاسعاف الى هناك، والأطباء طالبو بمبيت الطفل، ولكن بسبب ازدحام المستشفى باصابات الحرب واستقبالها المكثف للشهداء، لم تتسع لأن يستقبلو طفلنا على سرير لوحده، يريدون أن ينيموه مع 3 أطفال في سرير واحد، وأختي رفضت ذلك...
خوفاً على طفلها من العدوى، ابن أختي الطفل الرضيع الذي لم يتجاوز التسع شهور كان من المفترض أن يسافر ليستكمل علاجه في الخارج، ولكن أعاقت الحرب رحلة علاجه وأخته أيضاً، و لم نستطع ادراج أسمائهم في كشف المرضى، بسبب الواسطة والفساد، وبحجة أن الأولوية في السفر لجرحى الحرب، حتى حقنا في العلاج مسلوب كحقنا في الحياة، وكأننا لسنا بشر
لدعم شيرين وعائلتها...تبرعوا الآن
لا أبحث عن التعاطف من مشاركة قصتي معكم بل من أجل رفع مستوى الوعي حول الوضع المزري في غزة وطلب دعمكم. نحن بحاجة إلى مساعدة فورية لإعادة بناء حياتنا وأحلامنا المحطمة.
ساعدوني في رفع مستوى الوعي حول شركتي الناشئة "Arabic Mate".
*الصور مختارة من مواقع اخبارية وهي تعبيرية لتقريب الرواية إلى القارىء.