صحة المرأة

قصة تغلبي على الغمامة القاتمة التي ظللت حياتي

قصة تغلبي على الغمامة القاتمة التي ظللت حياتي
النشر : ديسمبر 04 , 2024
آخر تحديث : ديسمبر 04 , 2024
الدليل الشامل للأمهات في العالم العربي المزيد

(أ.ع) أم لثلاثة أطفال تحكي قصتها: بدأت القصة في مقتبل شبابي وزهرة عمري، وأنا على مشارف العشرين وفي بداية سنواتي الجامعيّة ، كنتُ حينها بالعموم شخصية قلقة، يظهر قلقي في مواقف متباعدة، وفي حالاتٍ محددة، ولم يعنِ لي ذلك شيئاً فقد كنتُ أرى المواقف تستدعي كل هذا القلق، بعكس من هم حولي ممن كانوا يعلّقون أحياناً على قلقي الزائد، فأراه وجهة نظر تخصهم ليس أكثر.

 وأنا حين ذاك لم يكن لدي الوعي الكافي أن هذه علامات للقلق الزائد، وأنه يجب التعامل معها كيلا تتفاقم، حيث أن القلق في حال تم إهماله قد يتطور إلى قلق مرضي واكتئاب في آخر المطاف. 

على سبيل المثال كانت عائلتي تنوي الذهاب يوماً إلى استراحة للاستمتاع بيوم الإجازة والسباحة، وكنتُ في ذات اليوم لديّ دعوة عشاء فاخرة ومهمة مع صديقاتي، ففضلتُ حينها مرافقة أهلي والاعتذار من صديقاتي، لأنني كنت قلقة على عائلتي أريد أن أكون إلى جانبهم لحمايتهم من التعرض لأي خطر كحوادث الغرق! رغم أن الأمر لم يكن يستحق ذلك، فهناك والدي ووالدتي وأشقائي.

 

هذه المواقف والأفكار الصغيرة كان يمكن معالجتها طالما هي صغيرة في البدايات، ويمكن أن أفكفكها وأعالج الفكرة بالفكرة، والخاطرة بالخاطرة، قبل أن تكبر وتصبح عصيّة على المقاومة، وتتحول إلى جيوشٍ من الأفكار التي تهاجمني بين فترة وأخرى، لتفتك بي.

 

لم تكن تظهر لديّ أي أعراض أخرى واضحة لاحتمالية إصابتي بالقلق أو الاكتئاب، ولكن كانت تمرّ بي نوبات من الضيق، أشعر فيها وكأن هناك غمامة قاتمة تظللني وتخنقني. 

وفي أوقات القرارات المفصلية في حياتي مثل قرار العمل بعد التخرج، وقرار اختيار شريك الحياة، كنت أظهر القلق والتشوش الكبيرين، فلم أتعامل مع هذه الأمور برويّة وهدوء، وتبسيط للحياة وبتفكيرٍ إيجابي. وعندما استمرّ الأمر لسنوات أصبح القلق يزداد حدّةً، وتشتدّ قبضته إحكاماً عليّ وتطول المدة تدريجياً، ويشوبها حزنٌ وفقدان للأمل.

التشخيص وبداية علاجي النفسي


لاحظت والدتي أن هناك شيئًا ما ليس على ما يُرام يستدعي استشارة طبيب نفسي للاطمئنان والتوجيه، بحيث يكون هناك تدخّل مبكر قبل أن يتفاقم الأمر، فاصطحبتني إلى الطبيب ليشخصني بالاكتئاب وأنا في عمر الحادية والعشرين، ووصف لي علاجاتٍ خفيفة مهدئة لتحسين المزاج والنفسية بشكلٍ عام.

 

قد يكون المريض النفسي يتناول العلاج بانتظام، ولكن هناك تغيّرات في نمط الحياة أو مشكلات أو تحديات جديدة أو أي نوع من الضغوطات النفسية التي قد لا يتوقع أحدنا أنها يمكن أن تؤثر في نفسيته، لكنها في الحقيقة تلقي بظلالها مباشرة على النفس، ليمر بعدها المريض بنوبة اكتئاب شديدة. 

ما مررت به بعد الزواج والإنجاب

ومن أهم الفترات الانتقالية في حياتي كانت فترة بداية الزواج حيث اختلفت حياتي، واحتجت إلى فترة زمنية حتى أتناغم مع طباع أخرى وهي طباع شريك حياتي المختلفة عني وعما اعتدت عليه، وأيضاً فترات الحمل بما فيه الوحام، وفترة النفاس بتقلّباتها الهرمونية، ومسؤولية رعاية نفسي حتى أتماثل للتعافي ورعاية صغيري.

لذا فإن أهم خطوة كنت أتخذها قبل كل قرار إنجاب، أن أحجز موعداً لدى الطبيب النفسي لأتناقش معه حول الأدوية وإمكانية تناولها أو لا حسب تقديره لحالتي، والأفضل في كل الأحوال أن أكون قادرة على الاستغناء عن الأدوية المضادة للاكتئاب على أقل تقدير في الشهور الثلاثة الأولى من الحمل، فهذا النوع من الأدوية كما أخبرني الطبيب لا يوجد بينها دواء محدد آمن تماماً للحامل، فقط هناك أدوية أكثر ضرراً أو أخرى أقل ضرراً على الجنين.

 ففي حملي الأول استطعت بفضل الله تجاوز الثلاثة أشهر الأولى بدون حبوب مضادة للاكتئاب، ثم في الشهور الوسطى عدت لتناولها مجدداً بإشارة من الطبيب، وبعد الولادة كان خطئي أني قمتُ بإيقاف العلاج من تلقاء نفسي تدريجياً بنفس طريقة الطبيب، لكن دون وجود بديل آخر من الأدوية المضادة للاكتئاب، وقد دفعني لذلك رغبتي الملحّة في إرضاع ابنتي طبيعياً وهذا ما يتعارض مع الدواء الذي كنتُ أتناوله.

فكانت هذه المرحلة مرحلةً حرجة لأي امرأة وأم خصوصاً في حالتي كمريضة بالاكتئاب، ولم أكن أدرك ذلك جيداً.. فأصبت بنوبة اكتئاب ما بعد الولادة حادة جداً. 

كنتُ أفتح عيناي كل صباح لأرى صغيرتي وأشعر بحزن جارف، وتصل بي الأفكار من شدة حزني عليها وقلقي أن أتمنى لها الوفاة حتى تكون بخير ولا يحدث لها مكروه، وكنت أشعرُ بعبء المسؤولية أضعاف ما هو عليه في الواقع.

وخلال وقتٍ قصير كان وزني في انخفاض سريع حتى أصبحت هزيلة، ولم أكن أتمكن من تقديم الرعاية لابنتي، وأشعر بمشاعر خانقة إثر أي موقف يتطلب مني رعاية بسيطة يومية لابنتي، كانت عائلتي إلى جانبي في هذه الفترة، واستمرّت والدتي وأختي برعاية صغيرتي في معظم الوقت.

 

وكم كنتُ محظوظةً بتفهم أهلي والمحيطين بي لحالتي، فأحيانًا تكون المرأة في وضع اكتئاب النفاس ولشدّة السقوط والانحدار النفسي الذي تمرّ به لا تدركُ أنها في وضع استثنائي، وهي تكون بحاجة ماسة لشدة التغير والاعتلال النفسي لمن ينظر إليها من خارج حفرة الاكتئاب ويمدّ إليها يد العون ويساعدها على أن تنتشل نفسها مما هيَ فيه.

 

ذهبتُ إلى الطبيب وما أن دخلتُ إلى العيادة حتى انعقد لساني، ولم أفلح إلا بلغة الدموع وبكاء الاستغاثة فتفهم الطبيب الحالة فوراً، ووصف لي جرعة مناسبة استمرت إلى 7 أو 8 أشهر شعرت على إثرها بتحسّنٍ كبير بفضل الله، وعدتُ إلى الحياة وعادت الحياةُ إليّ من جديد، وبدأت شيئًا فشيئًا أبتهج بقدوم مولودتي وتسللت إليّ مشاعر الأمومة الجميلة، وتحسّنت رعايتي لنفسي ولها، وعدت إلى الرضاعة الطبيعية.

وأشار إليّ الطبيب أن أرصد مزاجي وحالتي النفسية باستمرار وأركز هل أنا في صعودٍ أم هبوط؟ وهل أحتاج إلى المساعدة؟

 

كما أن كل أم مصابة بالاكتئاب، لابد أن تفكر جيدًا قبل قرار إنجاب المزيد من الأبناء وألا تأخذ الأمر بشكل اعتيادي، حتى لا تجلب لنفسها المزيد من الضغوط المتتالية التي قد لا تستطيع النفس تحملها، فتقع في دوامة الاكتئاب من جديد. وهذا الدرس الذي لم أتعلمه جيداً إلا بعد دخولي في رحلة الإنجاب الثاني والذي تلا الطفل الأول بأقل من عامين. 

وقد أوصاني الطبيب أن أتوقف عن علاج الاكتئاب قبل الولادة بيومين حتى لا يخرج الطفل عند الولادة نائماً أو هادئاً لا يبكي فيُربك الأطباء ظنًا أنه يعاني من مشكلة صحية.

وبعد الولادة غفلتُ عن العودة لتناول الدواء فداهمتني غصّةٌ أخرى كانت بالمرصاد لتسرق مني ضحكتي وفرحتي بطفلتي الثانية، لكنها تلاشت تدريجيًا بفضل الله.

 عاودني الاكتئاب بعد تغيير منزلي

كما مررتُ بعد ذلك بتجربة الانتقال إلى المنزل الجديد، كنت متحمسة وراغبة جداً في الانتقال إليه، إلا أنني وبعد أن رحلت ونتيجة للتغير الجذري ووجود طفل جديد كان الوضع مختلف كلياً، فأصبت بنوبة اكتئاب حادة، وكأني قد دخلت في نفقٍ أسود مظلم لا نهاية له، كنت دائمة الانزعاج والعصبية وأشعر بمزاجٍ متعكر.

 

بعد ذلك وصف لي الطبيب علاجات منتظمة، تناولتها لسنوات طويلة حفّتني فيها معيّة الله وعافيته وسكينة من لدنه. أما الآن.. وبعد رحلة تجاوزت الـ 15 عاماً مع الاكتئاب، تعلمتُ خلالها الكثير لإدارة نفسي والإصغاء لها جيداً، وأن أفصل ضغوطاتي الأخرى عن مشاعري وأفكاري بسبب الاكتئاب فلا أُسقطها على أبنائي أو من هم حولي.

 

وقد نفعني كثيرًا أخصائي العلاج السلوكي، فقد كنتُ أبثّ له مخاوفي وأفكاري الجامحة، وكان يوجّهني كل فكرة بما يُقابلها.

كما أن طبيبة العلاج المعرفي السلوكي أرشدتني لجلسات الاسترخاء وتمارين التنفس، وتقوية معرفتي واتصالي بالله التي لا تقلّ أهمية عن تناول الدواء، وأنه علي أن أذكر نفسي دائماً أن متاعب الحياة ليست اختباراً لقوّتنا الذاتية، فكلنا ضعفاء من جهة، إلا أنها أيضًا دعوة لاختبار قوة استعانتنا بمصدر القوة المطلق وهو الله عزوجل.

 

أهم ما توصّلت إليه أيضاً وأدركته مع سنين مصاحبتي لهذا المرض، أن الإنسان لا يستطيع أن يتنبأ بما يمكن أن تؤول إليه الأمور أو متى سوف تباغته النوبات، وما الذي قد يسبب له الضيق والكآبة.

ولكن العلاج يكمن أولاً بالاستبصار ومراقبة النفس، فهي مثل الطفل الصغير الذي يحتاج لمراقبته عن كثب حتى نكون قادرين على رعايته جيداً، فعندما يُحسن الإنسان فهم ذاته، يتمكن من إدارة مشاكله والتعامل مع نقاط ضعفه بشكل أفضل.


 

مواضيع قد تهمك

الأكثر شعبية