قصص أمهات
أول رحلة سفر لي بعيدة عن طفلي الرضيع
بقلم: دعاء النابلسي، أم لطفل
يُقال بأن الذكريات الأجمل هي تلك التي نَخُطُّها دون تخطيطٍ مسبق، تلك التي تأتينا على عَجَلٍ كنسمةٍ صيفيةٍ مسائية وتتركنا باحثين عنها لكن دون أي أثر، ومهما حاولنا أن نحاكيها لا نجد لها شبيه...
كان ذلك في العام ما قبل الماضي، حين اضطُررنا أنا وطفلي الذي كان يبلغ في حينها الستة أشهرٍ أن نفترق عن زوجي الذي كان يقيم في بلدٍ آخر لأسبابٍ معينة. في ذلك الوقت كان يوم ميلادي بعد عدة أيام وكنتُ مستاءة جداً كوني سأمضيه بعيدةً عن زوجي لا سيما وأننا فَوَّتنا عيد زواجنا قبل عدة أشهر لنفس الأسباب.
كنا نتحدث ليلتها مكالمة فيديو عندما أظهر لي الهاتف إشعاراً بوصول رسالة جديدة إلى بريدي الإلكتروني. طلب مني زوجي حينها أن أقوم بفتحها، استغربت من طلبه وشعرتُ بأن للأمر علاقة بمفاجأةٍ ما. وذلك ما حصل؛ وجدتُ تذكرة سفر باسمي متجهةً إلى مكانٍ مرتبط ببدايات زواجنا ويعني لكلينا الكثير! لم أُصَدِّق ما رأيت، آخر ما توقعته هو أن ألتقي به قبل الموعد المتوقع بعدة أسابيع وفي ذلك المكان بالذات! عاودتُ القراءة مرات عدة، هنالك أمرٌ ناقص، هنالك خطأ فيما أقرأ؛ أين تذكرة طفلي؟ لم أستطع إيجاد اسمه في أي سطر. أخبرته موضحة بأنه قد نسيَ أن يُرسِل التذكرة الأُخرى، لكنَّه وبكل ثقة أجاب بأن هذه الرحلة حصرية لكلينا دون مُرَافِقَنا الصغير.
شعوري تجاه المفاجأة...
جاءت إجابته كدبُّوسٍ ضخمٍ أتى ليُخرِجَني من فقاعة الأحلام التي ما لبثتُ أن صعدتُ بها حتى سقطْتْ. ماذا يعني ذلك؟ هل سأترُك رضيعي المعتَمِدُ كليَّاً على الرضاعة الطبيعية ولم يقبل ببديل عنها؟ كنتُ قد بدأت بتقديم الطعام الصلب له قبل أيامٍ فقط، لكن ذلك لم يجعل تَركي لهُ لأربعة أيام أمراً مُستساغاً. ناهيك عن مرحلة التسنين التي كانت في أوجها وما يرافقها من تبعاتٍ غنية عن التوضيح.
كل هذه الأفكار تزاحمت في رأسي لتصبح كلمات أُخبرُها لزوجي. لكنَّه أصرَّ على رأيه مُرتَكِزاً على ضرورة أخذ وقتٍ مستقطعٍ من الرعاية غير المنقطعة لطفلنا. وفعلاً أقنعني بأن ما سيحدث سيكون في مصلحتنا جميعاً؛ سَيُعيدُنا إلى المسار الصحي والصحيح كأي زوجين بعدَ ليالٍ طويلة من السهر والتعب والارتباط المُطلق بطفلنا الجميل لدرجة نكران الذات، وسيُمَكِّنني من العودة إليه بطاقة متجددة وروحٍ منتعشة.
كيف هيأتُ نفسي وطفلي قبل السفر...
كل ما كان عليَّ فعله هو تحضيره لهذه الأيام من خلال ضمان قبوله لزجاجة الحليب وتعزيز الطعام الصلب أكثر في وجباته، أو هكذا ظننت! فما أن عَلِم الأهل والمقربون حتى انقسموا ما بين مستنكر ومستهجن فوصل الأمر بالبعض -والذين صادَفَت أنهم لم يكونوا أمهات وآباء بعد- إلى التشكيك في عاطفة الأمومة لدي! وبين مشجعٍ ومرحبٍ بالفكرة متفقين على ضرورة أخذي أنا وزوجي لهذه الاستراحة.
لم يكن قبول طفلي بالبدائل بالأمر السهل، قمتُ بسحب الحليب ليكفيه، اشتريتُ علبة حليب اصطناعي، إضافة إلى أنواع متعددة من الخضار والفواكه. حاولتُ أن أعرض عليه زجاجة الحليب في أشد ساعات جوعه، أثناء نومه، حتى أني تركته عند أمي لعدة ساعات كي لا تكون الرضاعة مرتبطةً لديه بوجودي. لم يتقبَّله أبداً، وعدّاد الساعات آخِذٌ بالعدِّ جاعلنا نقترِبُ أكثر من موعد السفر غير آبهٍ بأهم أمرٍ عليَّ إنجازه قبل سفري. طمأنتني أُمِّي بأن الأمور ستكون على ما يرام، بأنها ستكون أحرص مني عليه خلال الأيام القادمة، بأنه لا داعٍ للقلق فمهما ازداد عناده، عند الجوع الشديد سيبحث عن أي مصدر ليُسكِتَ معدته الصغيرة. أرضعته قبل تَوَجُّهي إلى المطار تارِكةً خلفي كل أفكاري القلقة والسوداء، حيث لا مكان لها في حقيبتي.
أثناء رحلتنا...
التقيتُ بزوجي وبدأنا مغامرتنا مدفوعين بالحماس والحب اللامحدوديَن تماماً كما كنَّا من قبل، كدتُ أنسى أني أصبحتُ أماً في تلك الإجازة لولا مكالماتنا الهاتفية المستمرة للاطمئنان على صغيري، وكانت الأمور على ما يرام، أو هكذا كان يقال لي، إضافة إلى الألم في صدري والذي لم يكن يُحتمَل، لم أتوقع أن يحدث ذلك، فكَوني أمَّاً مرضعة كان جسدي ينتج الحليب في الأوقات التي عادة ما تكون فترات رضاعة، ولأن عمره في ذلك الوقت لم يتجاوز السبعة أشهر فأنا أقصد بتلك الأوقات طيلة اليوم. لو أني فقط استدركتُ هذا الأمر لأحضرت معي مضخة الحليب ومع أنها ليست حلَّاً عملياً في كل الأوقات إلَّا أنها كانت ستخفف من صعوبة الوضع.
ما حدث بعد عودتي لطفلي...
انتهت الأيام الأربعة كحلمٍ جميل ما لبث أن بدأ حتى انتهى. وصلتُ المطار عائدة لأجد صغيري بانتظاري هناك! ملاكي الصغير فقد بعض الوزن، أظهَر أول سِنَّيْن ولم يقبل أي زجاجة حليب أو ملعقة أو أي وسيلة إدخال. حتى أنه أضرب عن الطعام! وما كان أمامهم من حلٍّ إلَّا أن يبحثوا له عن أمٍّ تقوم بإرضاعه في آخر يومين!
لم تقتصر الأمور على ذلك؛ فقد تراجع إنتاج جسدي من الحليب حتى انقطع تماماً بعد يومٍ واحدٍ من وصولي تاركاً إياي معدومة الوسيلة. تأثرتُ كثيراً بما جرى، لمتُ نفسي على تلك المغامرة، وشعرتُ بأني أدفع ثمنها غالياً جداً.
استجمعتُ أفكاري التائهة مجدداً وطرحتُ على نفسي الحلَّ الوحيد بكلِّ حيادية: عليَّ أن أُحسِّن من حالتي النفسية وأن أؤمن بأني قادرة بمساعدة طفلي على إعادة الأمور لمجاريها، لا يمكنني لوم نفسي أكثر، عليَّ أن أتقبَّل ما جرى وأتوقف عن جلد ذاتي، كانت أياماً من العمر واستمتعنا بها، حان وقت العودة إلى المسؤولية الآن دون ربط المجريات ببعضها أكثر من ذلك. رددتُ الكلمات حتى آمنتُ بها، وفي أقل من يومين عاد الحال إلى ما كان عليه واجتزنا تلك المرحلة بكل سلام.
رأيي تجاه السفر دون ريان!
سأبدو مذنبةً في نظر البعض حين سماع هذه القصة، أعلم ذلك، لكنني سعيدة جداً بهذه التجربة. سعيدة بالأوقات التي لا تُنسى والتي قضيتها مع رفيق دربي، وكُلَّما نظرتُ إلى صورنا هناك أجِد نفسي أبتسم تلقائياً. وأشعر بالامتنان مجدداً لكل طرفٍ ساهم في جعل ذلك الحلم حقيقة، حتى أولئك الذين استهجنوه بدايةً؛ فقد اختلفت وجهة نظرهم كليَّاً عندما خاضوا تجربة الأمومة أو الأبوة، اختلف المنظور، وما كانوا يرونه استهتاراً أصبحَ حاجةً لا خلاف عليها. وكوالدين، فلقد كانت استراحة المحارب تلك سبباً في نجاحنا في رعاية طفلنا بطاقةٍ أكبر في الشهور اللاحقة، بعد أن تمكنَّا أخيراً من لمِّ شمل العائلة دون وجود أي صديق أو فردٍ من أفراد عائلتينا ليساعدنا في ذلك.
لو طُلِبَت مني مساعدة صديقة في اتخاذ قرار بشأن رحلةٍ من هذا النوع، سَأُشجعها حتماً! سألفتُ نظرها لأمورٍ ما كنتُ لأعرفها من تلقاء نفسي كوني أم للمرة الأولى؛ كأخذها لمضخة الحليب معها وتهيئتها نفسياً لاحتمالية الاستعانة بأُمٍّ أخرى لتقوم بإرضاع طفلها بل وسأحُثها على اختيارها بنفسها. سأُطمئنها بأن الأمور ستكون على ما يرام ولا بأس في نسيانِ أمرٍ أو اثنين، فالمهم حقاً هو اللحاق بأجمل لحظات العمر والتَمَسُّك بها ما دام الجميع بخير.
لستُ هنا أُشجع على الإجازات دون الأطفال، فأنا أؤمن بأن لا علاقة للسعادة بالمكان؛ تكمن السعادة في القرب مِمَّن نحب. وأؤمن أيضاً بأن لكل تجربةٍ نكهتها الخاصة والمميزة؛ ستمضون وقتاً مَرِحاً في الرحلات العائلية مع الأطفال، ستشكرون أنفسكم لاحقاً على صنع هذه الذكريات معهم لا سيَّما وأنهم مهما بقيوا سيغادرون العش يوماً لا محالة، تماماً كما ستشكرون أنفسكم عندما تخصصون لذواتكم ولشركائكم وقتاً خاصاً تصقلون فيه ما قد يُبهته الروتين والمهام اليومية التي لا تنتهي.