قصص أمهات
هذا ما علَّمتني إياه أمي.. أن أكون أقوى!
في عيون أبي سكنت عكا
وجامع الجزار والحواري
والسور وبحرها والصواري
وهمس الشواطئ في أذن القمر
ودفء الكانون في ليل المطر
في نبرات صوت أمي، في قصيدة كَتَبتها عن عيون جدي، استشعرت نسيم بحر عكا وطراوة جوها في المساء، رأيت القمر بدراً يستمع بآذان صاغيه لهدير الأمواج! أمي التي قاربت السبعين عاماً، والتي "أبت" –حسب قولها- إلا أن تولد في "عكا" عام 1948، لتضطر أن تهاجر إلى سوريا مذ كانت 40 يوماً، كبرت على قول "عمري من عمر النكبة".
لكن قصتي اليوم لا تروي سيرة حياة ابنة عكا "الطفلة"، وإنما تروي قصة عن كيفية تحويل "الجرح" إلى "صمود"!
لا زلت أحاول جاهدة أن أمسك قلبي عن تسارع نبضاته، وأشعر بالعرق يخط في ظهري، فحرارتي كالزئبق، ترتفع حيناً وتنخفض أحياناً، قبل أن تغيب كل الملامح من حولي، وأقع "مغشياً علي"! لست أدري إن كنت قد أكملت السنوات الأربع الأولى من عمري، حين فقدت الوعي للمرة الأولى. في حينها كنت استمع لقصيدة بالعامية كتبتها والدتي عن استشهاد أخي البكر ذو الشهور السبعة "منهل" وجدتي التي لم تكمل الخمسين عاماً "فاطمة" في طائرة ليبية أسقطها الصهاينة فوق صحراء سيناء عام ١٩٧٣. ربما يومها بدأت أحاول استيعاب فكرة أن أمي فقدت بكرها وأمها في نفس اللَحظة، ولا زلت ليومنا هذا لا أستطيع الاستيعاب.
والدتي- لطفية خالد دلال- الحقوقية التي تخرجت من جامعة حلب، اختارت ألا تقضي عمراً من النحيب والقهر. فأنا شخصياً لا أذكر البتة أني رأيت الدموع منهمرة – على الأقل ليس من عينيها، لكني قطعاً لا أجزم أن لم تقف دموعها تبحث عن منفذ في قلبها. بل حرصت على غرس الصمود وحب الوطن فينا، لنتنفسه صباحاً حين نستيقظ على صوت إذاعة BBC وتحليلات والدتي الإخبارية وموجز الأخبار في طريقنا إلى المدرسة. لأقف يداً بيد مع أخي الذي يكبرني عاماً في الصف "التمهيدي" على كرسي للأطفال في إذاعة المدرسة الصباحية، وننشد قصيدة "لماما":
يا أولادي يا أولاد الغد
حب الوطن ما إله حد
ابنوا له سور من قلوب
ضموا الشمس
وبوسوا الأرض
حب الوطن ما إله حد
ثم كبرنا، وكبر الوطن فينا، وكبرت أمي. وظلت تردد " أنها لا تدعي الشعر، ولكنها تتنفس على الورق!" تتنفس عمراً، وجرحاً، وقلمها يخط "ألماً" متبوعاً دوماً "بالأمل". جلست أشاهدها وأشاهد عيوناً خضراء لابني البكر تتابعها، وهي تتنفس جرحاً مشتركاً واحداً، جرح وطن وطيف جرح تراه بين السطور وإن لم تسمعه. فكان ديوانها " على ضفاف الجرح"، تمسكه، وتقف حيناً أو تجلس أحياناً، لكن في كل مرة أرى البريق في عينيها، وبروز الشرايين والعروق من يديها، فاسمع نبضاً من نبضها، ورعشة في نبرات صوتها. هي تلوح دوما بيدها اليمنى، كأنها تتوعد المجهول وربما تستحلفنا ألا ننسى، فتعلمنا وتذكرنا أن (حب الوطن ما إله حد).
والدتي، تجلس اليوم "جدة"، تصر على رفع قلمها، فتروي حكايتها، وجرح الوطن فينا. كما دوماً، ترتفع نبضات قلبي، ويخط العرق في ظهري، وحرارتي كالزئبق، لكني... لم ولن أقع! فمعلمتي متأصلة الجذور، نهلت منها معنى الصمود. في كل نقطة حبر خطتها درستني أن الجرح لن يندمل، لكن الحق أيضاً لن يندثر. علَّمتني أن القلم أسطورة في وجه الزمان، يسطر، ويؤرخ، ويقاوم، فيستسلم الزمن رافعاً الراية البيضاء! أمي معلمتي، صبارة صابرة، مقهورة متأملة، تصر دوماً أن " الخلود يبدأ، من رحم المبدأ".
لماذا أمي؟ ولماذا قصتها؟ لنيقن دوماً، أننا نملك الخيار لنغدو أقوى من كل عثرات الزمن!