قصص أمهات
ذكريات امرأة ناجية من مرض السرطان
بقلم: عبير عزة
ظننت أنني لن أشعر بمثل هذا الخوف في حياتي بعد تلك الليلة التي فقدت بها والدي … لم اتجاوز التاسعة من عمري حين رحل .. تركني انا وشقيقاتي الأربعة… ووالدتي .. نتخبط سنة تلو سنة … صنعت أمي مركبا لنا في نهر امواجه عاتية ومجتمع لا يرحم الإناث ..
تلك الرحلة التي لن اتطرق لها … مضت ومضينا بها … حتى وصلت إلى سن الزواج … كنت أبحث في زوجي عن الأمان… وعن الرجولة التي اذكرها في والدي … كنت أبحث عن رجل ينسيني حرقة اليتم… وقع اختياري على شاب يشهدون له بحسن أخلاقه وتربيته… كيف لا وهو من أبناء عمومة والدي … تزوجنا… وبدأت رحلة جميلة بحب وأحلام…
أنجبت طفلي في سن السادسة والعشرين… كان أجمل هبة من الله .. جاء قبل أوانه.. جعل حضوره هذا الزواج أقوى… أو لعلني ظننت ذلك .في خريف عمري الثامن والعشرين… شعرت بوجود كتلة في صدري … لكنني لم أشعر بالخوف فأنا صغيرة في العمر … ولكن ليطمئن قلبي …
هنا انقلبت موازيني… سرطان ..تم تشخيصي بالإصابة بسرطان الثدي … حملت روحي على كف وصغيري على كف … ورفعتهما إلى الله وطلبت منه الرحمة … بدأت رحلة العلاج … كنت أشعر أنني أفقد هويتي وأنوثتي وأمومتي يوما تلو يوم … وجدته إلى جانبي في المراحل الأولى الأكثر قسوة علينا نحن الاثنين… والأكثر إيلاما لوالدتي… التي باعت عمرها وحياتها لنصل انا واخواتي إلى الأمان .. كانت تتألم بصمت وبوجع يفوق وجع ما يسمونه العلاج الكيماوي الذي حرق آخر ورقة في أحلامي قبل أن يحرق جسدي … …
ولكن كلما اقتربت من إنهاء مرحلة العلاج كلما شعرت بابتعاد زوجي عني أكثر… عذرته.. فقد اعتاد على زوجته الجميلة التي تملأ الحياة حياة.. فأنا أكاد لا أعرف ملامحي الجديدة… لكن الأمر كان أكبر من ذلك… كان مشغولا ببطولة .. قصة حب … خيانة زوجة … بطلها ((لاب توب)) ومنتديات(محادثة ) أحب خلال فترة علاجي …
أدركت أن أمرا ما حدث خلال رحلة العلاج… حزمت حقائبي للعودة للمنزل بعد فترة قضيتها في رعاية والدتي … فإذا به رافض عودتي وبشدة … أيقنت وعدت وحاولت … لكن قرار الطلاق تزامن مع إنهاء آخر جلسة علاج … لم يقتلني السرطان … لكن زوجي قتلني … فذابت في روحي آخر قطعة ثلج تتمسك بالحياة لم تقهرها نار العلاج .
استعطفتها واستعطفته… لكن دون رحمة … تزوجا… ومن النافذة نظرت لأجده عريسا يزف للمرة الثانية … لكنني لم أرى خيالي … لم أكن أنا العروس هذه المرة … فاليوم أرى والد طفلي يُزف .. وقد ظننت أنني سأعود إليه عروسا … مضى خلفه كل من مضى خلفنا يوم زفافنا دون رحمة بي … ….
اخترت طريقي كأنثى مطلقة … وناجية سرطان…. طريق طويل … لم أكن أرى في نهايته أي لون … حتى خطوت خطوتي الأولى… فأدركت أنني أنا من ألون الحياة …
سقطت كل رغبة بالحياة حتى سمعت كلمة ((ناجية سرطان)) ،نفضت غبار كل ما مضى عن جسدي … و نهضت… استيقظت لأول مرة بعد أشهر وأشهر من العلاج لأدرك أن الحياة أجمل من أندب رجلا وقد أبدلني الله خيرا … اخترت طريقي كأنثى مطلقة … وناجية سرطان…. طريق طويل … لم أكن أرى في نهايته أي لون … حتى خطوت خطوتي الأولى… فأدركت أنني أنا من ألون الحياة …
بدأت ألوان الطيف تظهر لي مع قطرات صيفية .. اليوم انا أعلن أنني امرأة من فولاذ وأن في داخل كل منا امرأة من فولاذ …. فقد غفرت له تلك الندبة الأخرى في صدري… لتكون شاهدة أني نجوت مرتين في هذه الحياة … اليوم سأزين خصل شعري باللون الوردي … متضامنة مع كل الناجيات من كل سرطان يهتك احلامهن وحياتهن … غفرت له … ومضيت… وسأمضي… وهبة الله التي تركها لي .. ابني صغيري وحبيبي … قوتي اليوم وغدا …
*المقال الأصلي من arabwomanmag.com