قصص أمهات
أرملة وخمسة أطفال
أخبرَني والدي عندما أنهيتُ الثانويّة العامّة مُتفوِّقةً على كلّ إخوتي الذكور أنّ الفتاة لا تُشرِّفُها الشهادة، وأنّ (آخرة) الفتاة في بيت زوجها، ثمّ أخبرَني أخي عندما أقنَعَني بالعريس أنّ “زوج في البيت، ولا شهادة على الحيط”، والد زوجي أيضًا أخبرَني بأنّه يُحِبّ الذكور وأنّه يُريد عِزوة لابنه، زوجي بالمقابل أخبرَني بأنّه لنْ يرضى بزوجة عامِلة، ولن يقبَلَ بأنْ يكون “زوج الست”. كلّ هؤلاء أخبرُوني بأشياء، ولكنْ لم يُخْبِرْني أحدٌ ماذا أفعل عندما أترَمّلُ في عمر السابعة والعشرين وعندي أربعة أولاد وبنت، ولا أملك شهادة ولا عملًا.
لا زِلْتُ أذكُر يوم أَتاني الخبر، أحسَسْتُ أنّ أحدهم قَذَفَني مِن أعلى قمّة لأسقط في البحر، بقدر ما آلمَتْني الصدمة الأولى إلّا أنّي سرعان ما وعيْتُ أنّني في بحر مُتلاطم لم يُعَلِّمْني أحد السباحة فيه، كيف سأُنفق على أولادي الذين لم يبدؤوا رحلتهم في الحياة بعد؟! كيف سأدفع إيجار المنزل الذي سيستحقّ بعد شهرين؟!
زوجي الذي رفضَ الوظيفة التي عرَضَتْها عليّ إحدى قريباتي لأكتسب بعض المهارات والخبرة تُوفّيَ، والدي الذي رفضَ المِنحة التي أُعطيَتْ لي لإكمال تعليمي الجامعيّ تَنَصَّلَ مِن مسؤوليّة الأولاد بِحُجّة أنّهم لا يحملُون اسمه، والد زوجي الذي غَمَرَتْه السعادة في كلّ مرّة أضفْتُ فيها اسمًا ذَكَرًا لعائلته، أخبرَني أنّه لا يملك المال ولا يستطيع الإنفاق على خمسة، “خمسة كثير” حسب تعبيره، وأنا، أنا التي أطعْتُ كلّ هؤلاء بقِيتُ وَحدي أُصارِعُ للبقاء، أنا وأولادي في هذه الدنيا القاسية.
لا زِلْتُ أذكُر يوم أَتاني الخبر، أحسَسْتُ أنّ أحدهم قَذَفَني مِن أعلى قمّة لأسقط في البحر، بقدر ما آلمَتْني الصدمة الأولى إلّا أنّي سرعان ما وعيْتُ أنّني في بحر مُتلاطم لم يُعَلِّمْني أحد السباحة فيه، كيف سأُنفق على أولادي الذين لم يبدؤوا رحلتهم في الحياة بعد؟! كيف سأدفع إيجار المنزل الذي سيستحقّ بعد شهرين؟! أينَ كان عقلي عندما كُنتُ أتلقّى الأوامر مِن هذا وذاك دون نقاش؟! لماذا لم أُحارِبْ مِن أجل أنْ أُنهِيَ تعليمي؟! لماذا استسلمْتُ لمقولة أخي؟! لماذا تَسرَّعْتُ في الإنجاب إرضاءً للآخرين؟! أينَ كُنتُ أنا مِن كلّ هذه الأحداث؟! رضِيتُ بدور المفعول به طويلًا دون نقاش، وها أنا أُصارع مع دور الفاعل فجأةً ودون سابق إنذار.
كانتِ السنة الأولى الأقسى، عشتُ مُتنقّلة بين بيت أهل الزوج وأهلي، حتّى بدأتُ أرى الضيق في عيون الاثنين، نحن ستّة أفراد، ليس مِن السهل تقبُّلُنا في منزل يعُجُّ أصلًا بساكنيه، في ليلة صحيتُ على صوت ابني البِكر يبكي الضيق وصعوبة العيش، دموعه أيقظتْني من استسلامي لواقعي، خرجْتُ صباحًا أبحثُ عن عمل تاركةً أبنائي في عُهدة أمّي.
ساعَدَني أحد إخوتي بمبلغ من المال لأُتِمَّ دورة في فنون تصفيف الشعر، وسرعان ما توظَّفْتُ في إحدى الصالونات، ثمّ تنقّلْتُ مع اكتسابي للخبرة إلى إحدى الصالونات الفاخرة، لَمَعَ صيتي وأصبحْتُ أتقاضى مَبْلَغًا جيِّدًا بالإضافة للإكراميّات، تركتُ العمل في الصالون وأصبحتُ أعمل بمفردي بأنْ أحملَ عدّتي وأذهب لتزيين العرائس في البيوت، استأجرْتُ بيتًا لي ولأولادي، وبمُساعدة والدتي استطعْتُ تأمينَ كلِّ ما يحتاجُه أولادي بلا منّة مِن أحد.
نعم استطعْتُ الوُقُوفَ على قدميّ، كان الأمر شاقًّا ومُرهِقًا، ولكنّي نجحْتُ، لن أعود للماضي، ولكنّي سأتعلّم منه وأُعَلِّم أبنائي وابنتي، سأُعَلِّمُ ابنتي ألّا تعتمد على أحد فقد تُتْرَكُ يومًا بلا أحد، سأُعلِّمُ أبنائي أنّ البنت تُشرِّفُها شهادتها، وأنّ مكان الشهادة ليسَ الحائط بالتأكيد، وأنّ عمل الفتاة مهمٌّ كعمل الرجل، وسأُعلِّمُهم جميعًا أنّ عليهم أنْ يُحاربُوا لتحقيق أحلامهم، وأنّ قرارات حياتهم هم فقط مَن سيدفعُ ثمنها، لذلك فَهُمْ فقط مَن يجبُ أنْ يَتَّخِذَها.
*المقال الأصلي ظهر في Arab woman mag