قصص أمهات
قررنا الهجرة مع أطفالنا وهذا ما حدث
تحكي (هـ . ب) قصتها : أنا أُمٌ ثلاثينية لخمسة أبناء، وُلدت في المملكة العربية السعودية، ونشأت وترعرعت فيها طيلة سنين طفولتي وشبابي ودراستي وحتى ارتباطي بزوجي، وإنجابنا لأبنائنا الخمسة -حفظهم الله- وتربيتهم في هذه البلاد بين الأهل والأحباب والأصحاب، كما أننا بنينا فيها بيت العمر وبنينا معه آمالنا بقضاء سنين مديدة فيه، ولم أكُن حينها أعرف من الغربة إلا اسمها، ولم أكن أتخيل أنها ستكونُ يوماً ما خيارنا ومقدرة لنا.
استحدثت في فترة وجيزة العديد من الأنظمة فيما يخص الإقامة في المملكة العربية السعودية، مما دفع الكثير من الأسر والأفراد المقيمين في هذه البلاد إلى الانتقال والهجرة إلى بلادٍ أخرى، حينها كان علي أنا وزوجي أن نقدم على اتخاذ قرار هو الأصعب على الإطلاق على المستوى الشخصي لكلٍ منا، وعلى مستوى أبنائنا وأسلوب حياتنا ككل، ولكن بعد الاستخارة والاستشارة والتفكير ملياً وتقليب الأمور والمصالح المرجوة، ودراسة مختلف الخيارات المتاحة أمامنا من بين الدول، حسمنا قرارنا بالهجرة إلى كندا، وبدأنا بالشروع في إجراءات السفر.
.
كانت الخطة هي الذهاب إلى جمهورية مصر العربية ومن ثم الانتقال منها إلى كندا، فكان علينا أن نبقى أنا وزوجي وأطفالنا في مصر ريثما ينتهي زوجي من إجراءات الهجرة وتمهيد الطريق لنا للذهاب إلى كندا.
ودّعنا الأهل والأحباب والأصحاب، وأرضاً ضمّت سنيناً محفورة في ذاكرتنا، وبدأنا مرحلة جديدة في حياتنا ونقلة نوعية لم تكن في الحسبان، واجهنا فيها تحديات وصعوبات نفسية واجتماعية، كان أهمها البعد عن الأهل الذين لم تكُن علاقتنا بهم عادية بل كان ارتباطنا ببعضنا وتكاتفنا قوياً جداً، والمحبة بيننا كانت تنمو وتكبر مع السنين مهما كبرت العائلة وامتدت -حفظها الله-، ومهما شغلتنا الحياة بما فيها من مصالح وحاجات مختلفة.
كما أن الغربة في مجتمع جديد تختلف تماماً عما كنا معتادين عليه في بلادنا، فقد عاشرت في السعودية أخوات من مصر كن من خيرة الناس ولكن لم يسبق لي مطلقًا زيارة هذه البلاد، فضلاً عن الإقامة والعيش فيها، ومما زاد الأمر صعوبةً هو عدم وضوح الفترة والمدة التي سوف أقضيها في مصر، فهي تعتمد على مدى سرعة تطور إجراءات الانتقال إلى كندا، فقد كنتُ أتوقعُ بشكلٍ مبدئي أن تستغرق مجمل تلك الإجراءات الستة أشهر إلا أنها امتدت لتبلغ قرابة العامين.
اضطررنا لإيقاف أبنائنا عن الدراسة في هذه المرحلة، كونها لم تكن واضحة، فلم نكن نريد لهم أن يبدؤوا بالدراسة ثم ينقطعوا عنها ليعودوا ويبدؤوا من جديد في نفس العام الدراسي.
وبدأت مستعينةً بالله في انتشال نفسي من المعنويات المتدنية والتقلبات المزاجية التي كنت أمر بها، فوضعت خطة لتجاوز هذه العقبات والصعوبات النفسية.
قررتُ أن أشغل نفسي فيما ينفعها، فقد كنتُ ملتحقة بمعهد شرعي في جدة بدراسة منتظمة ومنهج مكثف ولست معتادة على إمضاء أيامي بلا هدف، فقررت أن أعلم أبنائي في المنزل ليستمروا في التعلم والتطور على الرغم من صعوبة الظرف الذي نمر به، فالعلم هو القوة والوسيلة لكل من أراد النجاح والرقي.
لم يكن قرار التعليم المنزلي سهلاً، خصوصاً وأن الأبناء كانوا في سنٍ مبكر ولا يدركون أهمية ذلك، لكن بالاستعانة بالله وحسن الظن به تتيسر كثير من الأمور، فقد أتموا حفظ أجزاء من القرآن الكريم بفضل الله وحفظوا أكثر من منظومة علمية مخصصة لمرحلتهم العمرية في الفقه والتوحيد والأخلاق، والتحقوا بدوراتٍ تدريبية متنوعة في تطوير مهاراتهم في الروبيك والحساب الذهني وتعلم اللغة الإنجليزية.
شعور الغربة مؤلم ومضعف للنفس ومرهق لها خصوصاً مع الأم، التي عليها أن تنتبه كيلا تنقل مشاعرها هذه لأبنائها، دعمني في ذلك كله إيماني بالله ويقيني بأن ما قدره لنا خير، وهو الذي أعطاني القوة والرضا والطموح لأتكيف وأتقبل هذا التغيير وأطور من نفسي.
فاستمدّ أبنائي مني ذلك التماسك والتكيف والقدرة على مواصلة النجاحات، فأبناؤنا مثل ورقة الكربون الفارغة ما أن نبدأ بالطباعة على الورقة الأولى وهي أنفسنا حتى تنطبع على الورقة الأخرى نسخة مطابقة لها فيتبنّون ردود أفعالنا تجاه الأحداث، والمؤمن القوي خيرٌ وأحبّ إلى الله من المؤمن الضعيف.
ومما هون عليّ الغربة تخصيص وقتٍ لسماع الدروس العلمية عبر الإنترنت بانتظام، والاستفادة منها ورزقني الله بصُحبة صالحة في مصر ومجموعةً من الأهل والأقارب هناك فخصصتُ يوماً أسبوعياً وبدأت بإلقاء الدروس الدينية لهم فيه.
وفي أقل من عامين انتهت فترة إقامتنا في مصر والحمدُ لله بكثيرٍ من الإنجازات. وبدأت المرحلة الأصعب وانتقلنا إلى الوجهة التالية كندا، مجتمعٌ مختلف كلياً وعقبات وتحديات أكبر، اختلافات دينية ولغويّة وثقافية.
همومٌ كثيرة بدأت تراودني، أهمها: الثبات على الدين والتمسك بالحجاب، التربية والتعليم ....
لكن كل الهموم تتلاشى عندما نتذكر أن الله معنا وهو القويّ يقوينا، الحفيظ يحفظ علينا ديننا، العليم يعلّمنا ما ينفعنا في ديننا ودنيانا، الرزّاق يرزقنا ويرزق أبناءنا الصحبة الصالحة والمجتمع الصالح.
وجود بعض الأقارب هناك كان من الأمور الداعمة لي بعد الله في معرفة البلد والتكيف نوعاً ما فيها، ويسر الله للأولاد إكمال التعليم عن بعد، وتعرفتُ على جاليةٍ مسلمة اجتمع معهم كل أسبوع لنتدارس معاً كتاب الله.
وبدأت بإلقاء دوراتٍ تدريبية عن بُعد للأولاد والبنات في الحساب الذهني، وتحفيظ القرآن لأبناء المسلمين غير الناطقين بالعربية.
ولا زالت تحديات المجتمع كبيرة وكثيرة وشاقة، خصوصاً مع انتشار وباء كورونا وإغلاق المساجد والمراكز الإسلامية، لكن هذا وضعٌ سينكشف بإذن الله وأطمح بأن أعمل ملتقياتٍ واجتماعاتٍ تعليمية وترفيهية لأبناء المسلمين هنا، لتكوين مجتمع مناسب للغتهم وثقافتهم وهويتهم.
كنتُ أضع أمام ناظريّ هذا الحديث الشريف كلما وهنت قوّتي أو ضعفت إرادتي وكلّت عزيمتي، قال صلى الله عليه وسلم: (احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز)، فيدفعني أن أبذل كل ما أستطيع مهما كانت العقبات إلى أن يعينني الله للوصول للأهداف وتحقيق الأماني.
وأخيرا، رسالتي إلى كل أم مغتربة أو تمر بتحديات أيًا كان نوعها:
- معرفة الله والايمان به تجعلك أم قوية راضية بأقداره، فيستمد منك أبناؤك هذه القوة ويكبروا بحول الله وهم راضيين عن الله وأقداره فيسعدوا في دنياهم وأخراهم.
- التخطيط الجيد للعائلة مهم جداً، والموازنة بين احتياجاتك واحتياجات أبنائك ومن ثم إفادة من حولك. فعنوان السعادة أمرين: الإحسان في عبادة الله، والإحسان إلى عباده.
- احذري من الاهتمام بالأمور الدنيوية وتقديمها على الأمور الدينية، أو ترك بعض واجباتك الشرعية من أجل أبنائك أو أي مصلحة أخرى، الأهم أن تحافظي على الصلاة في وقتها وتجعلي لك ورداً يومياً من القرآن، ودائما تذكري وذكري أبناءك أن القرآن للقلب كالطعام للبدن أو أكثر، فلا غنى لنا عنه وفيه البركة والتوفيق.
- الصبر على الأبناء والتعامل معهم برفق ومراعاة صغر سنهم واحتياجاتهم النفسية والبدنية، ومراعاة عدم إدراكهم لكثير من الأمور، وإفهامهم أن هذه التغيرات طبيعية جداً وأن هذه حال الدنيا فهي لا تستقر ولا تثبت على حال أبداً لأي أحد كان.
- الدعاء الدعاء الدعاء، بأن يعيننا الله ويسددنا ويعلمنا ويعلمهم ما ينفعنا في الدين والدنيا وألا يكلنا إلى أنفسنا وأن يحفظ علينا وعليهم الدين.