قصص أمهات
رحلتي الروحانية في رمضان غيرت حياتي
كان الأمر أشبه بغريقٍ يبحثُ عن "القشة"، كنتُ في قمةِ ضعفي وانكساري ولا أعرف كيف يمكنني الخروج من كل تلك الهموم والأفكار التي سيطرت علي، حتى جاء "رمضان"!
ربما تعتبرون تلك المنشورات التي تدعو لشد الهمة والتغيير في رمضان ولاغتنام الفرصة أشياءً تقليدية! لكنها غيرت حياتي تماماً في ذلك العام!
كنتُ في العشرين من عمري عندما قررتُ فجأة أن أتبع تلك الكلمات وأتعرف إلى الله حقاً في رمضان كما لم أعرفه من قبل.
ثوبُ صلاةٍ جديد ومصحف مفسر وكتاب مختصر عن قصص الأنبياء، كانت هذه أدواتي وكل ما أحتاجه لرحلتي..
بدأتُ في تنفيذ كل شئ قرأته، أصلي عقب الأذان وأجتهد في قراءة القرآن بتدبر، ولأول مرة أقرأ معاني الكلمات والتفسير، وكم كان الأمر مختلفاً وعظيماً.
صليتُ التراويح لأول مرة، وكنت أنتظر بعد الفجر حتى الشروق ليُكتب لي الأجر، كما ورد في قول النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-: "من صلَّى الفجرَ في جماعةٍ، ثم جلس يذكرُ اللهَ حتى تطلُعَ الشمسُ، ثم صلَّى ركعتينِ، كانت له كأجرِ حجةٍ وعمرةٍ تامةً، تامةً، تامةً".
لم تكن هناك مواقع تواصل اجتماعي، لذا كنتُ في عزلة حقيقية تزامنت مع إجازتي من الجامعة، كان الأمر عظيماً جداً، وكأن كل يوم جديد كان يغسل روحي أكثر، وكأن كل الكسور قد جبرت وعادت لتشكل قلبي من جديد كما لم أعهده من قبل، ذلك الرمضان غير حياتي تماماً..
عن حلاوة تدبر القرآن وقراءة قصص الأنبياء
عندما بدأت في قراءة القرآن من مصحف مُفسّر، شعرتُ حينها بذهني يتقد، عقلي يفهم لأول مرة ما أقرأ، شعرتُ لأول مرة بقلبي يتفتح ويتعلق بالقرآن، شغفي يتنامى ليدفعني أن اقرأ أكثر وأكثر لأفهم أكثر، فالقلب لا يؤمن حتى يفهم، لا يتفتح إلا عندما تنتهي الأسئلة ويطمئن للإجابة.
بدأتُ في دراسة قصص الأنبياء، ورسمتُ مخططي الخاص لقراءة سيرهم بدءاً من آدم عليه السلام وانتهاءً بمحمد (صلى الله عليه وسلم)، بدأتُ أتعمق أكثر في حكاياتهم استناداً لما بحوزتي من كتب والدي وما ذُكر عنهم في القرآن، فاكتشفت الكثير والكثير مما كنتُ أجهل، وتسربت معجزاتهم وقوة إيمانهم وعبر حياتهم إلى قلبي، فترسخت فيه أكثر وأكثر..
كلما فهمتُ أكثر كلما شعرتُ بالإيمان يملأُ قلبي أكثر، لأول مرة أشعر أنني أصلي وأقرأ القرآن حباً وأملاً في رضا الله، أريدُ أن أفعل أكثر، أعرف أكثر وأتقرب إلى الله أكثر وأكثر، حباً لا خوفاً، املاً في رضاه لا أداءً لمهمة..
عندما تقرأ القرآن وتتدبره بتمعن، وتكتشفُ ما فيه من قصص وعبر وتربطها بالتفسير وقصص الأنبياء تكتشف عظم تلك الرسالة التي قد نغفل عنها في حياتنا كلها إن لم يرزقنا الله تلك الفرصة، ويرزقنا ذلك النور في القلب لنهتدي..
ما تعلمته من معانٍ وأفكار
ومن المعاني التي تعلمتها في ذلك العام:
- الحياة ليست سباق وليست غاية..
- السعي هو الهدف ولا يضمن أبداً الوصول لما نسعى إليه، قد يوصلنا إلى ما هو أبعد أو ما هو يختلف عن مبتغانا، لكن ما دمنا نسير ونسعى ابتغاء مرضاة الله، فذلك يعني أننا على الطريق الصحيح.
- لله حكمةٌ في كل شئ وإن لم ندركها أبداً..
- "الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ ۖ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًا ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268)" سورة البقرة ، نحن نقضي حياتنا في خوف وجزع طوال الوقت، ذلك ما يجعلنا ضعفاء ويزيد شيطاننا قوة وسلطة علينا وعلى أفعالنا، رغم أن تدبيرات الله تعالى دوماً تخفي الخير!
- العمل والعلم هما غاية الحياة.
- "وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًا ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)"، وذلك هو خير رزق في الدنيا، أن تعرف أنها ليست الغاية ويرزقك الله الحكمة ليصبح عملك هو الغاية.
- النية هي أساس كل شيء ، تغيير النوايا وتنزيهها عن المنافع قد يغير قلبك للأبد ، فتعطي عن طيب خاطر ، تعمل بنفس راضية دون مبالاة بالمقابل ، فقط لأنك احتسبت ذلك لوجه الله!
- الصوم هبة عظيمة تُهذب النفس وتريح الجسد وتصفي العقل، لكن الصوم ليس في المعدة فقط، الصوم مدرسة إيمانية متكاملة، عليك أن تصوم فيها عن الأحقاد والغيرة والحزن، عليك أن تصوم عن الخلافات ولا تبالي بشيء إلا بالعبادة والعمل..
قال عليه السلام: "كَمْ مِنْ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلاَّ الْجُوعُ وَ الظَّمَأُ، وَكَمْ مِنْ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلاَّ السَّهَرُ وَالْعَنَاءُ".
- الصوم ليس مرهقاً جداً إن تعاملنا مع أجسادنا بحكمة، ولم نتخمها بالطعام و تناولنا طعاماً متوازنا..
- الصاحب ساحب، في ذلك الرمضان صليتُ لأول مرة في المسجد وأدركت أهمية الصحبة الصالحة في الحياة، أن تكون وسط أشخاص يجتمعون على نفس الهدف ويشاركونك السعي، هذا يهونُ عليكم المشقة وهو فوزٌ عظيم، لذا عليكم باختيار صحبتكم بعناية.
لكن لماذا نصوم حقاً؟
لطالما حيرني ذلك السؤال في طفولتي، اسأله لنفسي ولأمي مراراً فلا تقنعني الإجابة!
كانت الإجابة التي أحصل عليها دائماً أننا نصوم لنشعر بالفقراء، إذن لماذا لا نشرب! أليس لدى الفقراء ماء! كلما كبرتُ كلما ازدادت حيرتي وعدم اقتناعي
بالتالي فتر حماسي للصيام والتعرف أكثر لشهر رمضان، كنتُ أمتنع عن الطعام والشراب امتثالاً لأوامر والديّ فحسب، دون أن أشعر بشيء، دون أن أدرك لماذا أفعل ذلك!
إلى أن قررتُ في ذلك العام أن أكتشف إجابتي بنفسي وبدأتُ بالبحث والقراءة في كتب والدي.
في ذلك العام حصلتُ أخيراً على إجابة سؤالي الصغير "لماذا نصوم؟"
نحن نصوم طاعةً لله ورغبةً في رضاه و امتثالاً لأوامره..
نصوم لنتعلم الصبر على مشاق الدنيا ولنتعلم أن مع العسر يسراً، ولابد لكل محنة من نهاية، فمهما بلغ بنا الجوع والعطش سنفطر في النهاية وقت آذان المغرب..
نصوم لنهذب أنفسنا ونُعيدُ ترويضها ومحاسبتها في وقفةٍ قصيرة لشهرٍ واحد لمراجعة أخطاء العام الماضي وتجديد عهود ونوايا العام القادم..
نصوم لكي نتحد جميعاً في هذا الشهر الفضيل على قلبِ رجلٍ واحد، نأكل في موعد واحد ونُمسكُ في موعدٍ واحد.
نصوم لنشعر بغيرنا من الأقارب فنصل رحمنا، ومن المحتاجين فنفرج كرباتهم ونحسنُ إليهم قدر استطاعتنا..
نصوم لنطهر قلوبنا من الأحقاد ونتسامح ونتسامى عن رغبات الدنيا وشهواتها، فنفسح لأرواحنا المجال لتتنفس وتشعر وتؤمن!
نصوم إعلاءً لشعائر الله وإكمالاً لأركان ديننا الخمس.
نصوم طمعاً في الجنة وأن نكتب من العتقاء من النار..
فالصوم ليس فقط امتناع عن الطعام والشراب لعدة ساعات، بل هو مدرسة إيمانية متكاملة،غنم من فاز بها وتعلم درسه جيداً وخسر من فوّت الدروس وضيع الثواب، لاهياً غافلاً عن المنحة الربانية في هذا الشهر الكريم..
لا تُهملوا أسئلة صغاركم
لا تهملوها وإن لم تعرفوا ابحثوا عن إجابات تقنعهم، "فالقلب لا يؤمن حتى يفهم"، ولا يتفتح إلا عندما تنتهي الأسئلة ويطمئن للإجابة.
لا تضجروا من شغف الصغار وتعطشهم للمعرفة، فذلك سلاحهم السري لاكتشاف العالم والعثور على الطريق، مهما صغر سنهم يستوعبون، ولا يمر عليهم شئ مرور الكرام، لذا أصبح إعدادهم مبكراً لإحياء شعائر الله والمشاركة في عباداته والتزام أوامره فرضاً واجباً علينا، لتتعلق قلوبهم منذ الصغر بطاعة الله وحب فروضه، والامتثال لأوامره وتجنب نواهيه، حباً له وطلباً لرضاه وثوابه..
.....
تلك المنشورات التي قد تمر عليك مرور الكرام بل وقد تعتبرها مملة لكثرة تكراراها، قد تغيرُ قلباً ما رزقه الله الهداية..
تكرارها ان هو كقطرات متتابعة على صخرٍ صلب، يوماً ما سيلين وينكسر تحت تلك القطرات، فيذوب فيها ويرق لرقتها ويتحول خلقاً جديداً..
وكل هذه الزينة والاستعدادات التي يتفنن في صنعها الجميع ويعظمونها وينتظرونها من العام إلى لعام هي حفاوة واحتفال وتمهيد للنفس لتتزين وتستعد لرحلتها الجديدة في هذا العام.
فالنفس تميل لكل ما هو ملموس قبل أن تنتقل للروحانية..
ماذا عنكم؟ متى شعرتم بقلبكم يتفتح أخيراً بالإيمان؟
وماذا كان سؤال طفولتكم الذي لم تجدوا له جوابا مقنعاَ حينها؟