قصص أمهات
أصعب اختبار في حياتي تحول إلى أجمل ما فيها
بقلم: إيناس زيدان قعدان، أم لثلاثة أطفال
هذا أنا.. جنينٌ في الشهر الثامن ..
ها قد اقترب موعد ولادتي، موعد قدومي إلى هذه الدنيا، لا أعلم كيف ستكون حياتي، ولا كيف ستكون ردة فعل من هم حولي لمجيئي ..
في الحقيقة، لا يهمني أحد، وحدهما والداي من أخاف عليهم من هول الصدمة، فقد كانا ينتظران طفلاً جميلاً بكامل صفاته، ولا أعلم هل سيكون لكروموسومي الزائد تأثيرٌ على فرحتهما..
أعلم يا أمي ويا أبي أنني لن أكون ضمن توقعاتكما، وأنكما ربما لم تتهيئا بعد لهذا كله.. لكنني في شوق كبير للقائكما..
اليوم زرت مع أمي الطبيبة وسمعتها تتمتم لأمي ببعض الشكوك والمخاوف، عندها أحسست أن ضربات قلبي تسارعت مع تسارع ضربات قلب أمي وقد استولى عليها القلق والخوف! أتراها اخبرتها عني وعن صفاتي؟ أتراها صارحتها بحقيقتي؟
شعرت بأمي وهي تبحث عن إجابات لأسئلتها، وهي تحاول اخفاء دموعها قبل أن تنهمر، فقد وضعتها تلك الطبيبة في دائرة من الشك، هي لم تجزم بالخبر ولكنها وضعت أمامها احتمالات عديدة، واكتفت في آخر كلامها أن تقول: "تناولي مزيداً من الفيتامينات".
لا أعلم هل رأتني تلك الطبيبة وأنا أختبئ وأخفي جزءاً من ملامحي، فتواطأت معي على إخفاء ذلك عن أمي، فأنا أخشى عليها أن تعلم بشأني في هذا الوقت ولم يتبقَّ على ولادتي سوى أسبوعين ..
أعلم يا أمي أنني اجهدتك كثيراً، وأنك تحملت الكثير من أجلي، ولكني أعلم أيضا أن الألم الذي يسببه القلق والخوف من المجهول يفوق أي ألم جسدي ..
لذا، حاولت كثيراً أن أخفي ملامحي طيلة الأشهر الماضية، ليس لأنني أخاف أن تتخلي عني لو أنك عرفت بأمري مبكراً، فأنا واثق أنك ستختارينني دون أي تفكير، وإنما لأجنبك الكثير من القلق والألم، وكي لا تسيطر عليك الهواجس والأفكار والأسئلة التي سترافقك طيلة أشهر حملك بي، فأحببت أن أجعلك تنعمين بالهدوء والراحة في هذه الأشهر، فيكفيك ما ستواجهين بعد ولادتي..
أمي.. أبي.. إخوتي ..
أريد أن تعلموا أنني أحببتكم جميعاً، وأنني أشتاق لوجودي بينكم، فقد عشت معكم هذه الاشهر بكل تفاصيلها.. شعرت بفرحتك أمي وأنت تجهزين ملابسي، وشعرت بوالدي الذي استمعت كثيراً إلى كلامه عني ولهفته لقدومي، اشتقت لإخوتي وتمنيت أن أكون جزءاً من هذه العائلة المحبة الجميلة ..
تمنيت أن تمنحوني فرصة التواجد بينكم لأخبركم عني أكثر، فلربما أستطيع أن أغير عالمكم إلى عالم آخر مختلف وجميل ..
******
لم أتخيل أنني سأوضع في هذا الاختبار يوماً! ولم أتخيل أيضاً أنه سيكون على صعوبته أجمل شيء في حياتي..
قصتي بدأت قبل ولادة يوسف بأسبوع، لحظات من الترقب والقلق والخوف، مشاعر متضاربة بين فرحي بانتظار قدوم المولود الجديد وبين إحساسي بالخوف لم أكن أعرف سببه.
وجاءت ساعة الولادة التي كانت متعسرة بعض الشيء، لكنها تيسرت بقدرة الله وفضله. استيقظت على الطبيب وهو يخبرني بحالة طفلي والحزن بادٍ على وجهه، شكرت الله وحمدته على ما أعطى وفي داخلي الف سؤال و سؤال ..
لماذا اختارني الله لهذا؟ كيف سأرعى هذا الملاك وأربيه؟ كيف سأوفر له بيئة مهيئة تناسبه؟ والأهم من كل ذلك كيف سأحميه من قسوة هذا العالم؟!
لكني استجمعت قواي وبعد عدة أيام عدت إلى بيتي حيث وجدت السند الاكبر، زوجي الذي استقبل طفلنا بكل حب وسعادة وقال لي كلمات لن انساها ماحييت: "انسي أن يوسف لديه متلازمة داون، سنتعامل معه ونربيه كما ربينا إخوته".
وبدأ المشوار.. لم يكن سهلاً، كان مليئاً بالمصاعب، الكثير من الجلسات والاستشارات المصحوبة بقلة الخبرة في كثير من الأحيان، لكن فطرة الأم في داخلي كانت تجعلني أبحث عن كل ما يناسب طفلي وينفعه..
ولعدم توفر جلسات العلاج الطبيعي كنا نضطر لصناعة الأجهزة بأنفسنا بما يناسب وضع يوسف، من أجهزة وقوف وجلوس ومشي، إلى أن بدأ يخطو خطواته الأولى، كانت هذه من أسعد اللحظات في حياتنا، كل إنجاز ليوسف كان يدخل البهجة والفرح إلى قلوبنا جميعاً.
وتوالت الإنجازات إلى أن أصبح يوسف بعمر الست السنوات، هذا العمر الذي ينتظره الأهل بفارغ الصبر ليلبسوا أطفالهم الزي المدرسي لأول مرة في أول يوم دراسي لهم، وهنا بدأت تحديات جديدة، رفضٌ.. رفضٌ.. رفضٌ في كل المدارس وحجتهم أنها غير مهيئة!
ما ذنب طفلي إن كانت مدارسكم عاجزة عن استقباله؟ وأنا التي قضيت سنوات أهيئه وأعده ليكون مستعداً للدمج وللالتحاق بمقاعد الدراسة كغيره من الأطفال!
و بعد جهد طويل، قررت أن أتخذ أصعب قرار في حياتي من أجل أن أجد ليوسف مدرسة دامجة، وهو العودة بأطفالي إلى الأردن، كان في ذلك تغيير جذري لي ولأسرتي، لكني وببحمد الله وجدت المدرسة المناسبة لطفلي ولغيره من الأطفال إلا أنها مكلفة، فتنازلنا عن الكثير في سبيل تسجيل يوسف ليبدأ تعليمه في بيئة داعمة ودامجة ومريحة.
واليوم هو في الصف الخامس متقن للكثير من المهارات بالإضافة إلى مشاركته بالكثير من النشاطات لنشر الوعي في المجتمع عن أطفال داون وتقبل اختلافهم.
يوسف اليوم وبعد اثني عشر عاماً أصبح ملهماً لمعظم أطفال متلازمة داون ولديه إنجازات كثيرة. من مشاركات في مسابقات ودورات، حيث شارك في 4 ماراثونات ونال ميداليات التشجيع لوصوله إلى خط النهاية عن فئة الأطفال، وهو حاصل على حزامين في التايكواندو وعلى 6 دورات في المسرح والدراما وتطوير الذات. إضافة إلى مشاركته في عروض أزياء محلية.
أيضاً شارك فيديو لقصة نجاح بالدمج في مؤتمر الكونغرس الافتراضي الذي أقيم في الإمارات لعام 2021، طبعاً بالإضافة إلى وجوده في المدرسة الدامجة وقد صار في الصف الخامس، وهذا يعتبر من أكبر الإنجازات.
يوسف الذي كنت أخشى عليه في يوم ولادته من الرفض المجتمعي ..أصبح اليوم ملهماً لكل من يراه ..