قصص أمهات
قصة أمومتي مع (أزهر) طفلي الذي لم ألده
أنا حوّاء بدأت قصتي مع ابني بدايةً مختلفة، فلم يكن الأمر كما جرت عليه العادة بأن أبدأ حياتي الزوجية ثم لا ألبثُ أن أصبح أمًا في غضون أشهرٍ قليلة، بل مرت الأشهر تلو الأشهر، وبدأ القلبُ يدقّ ويرقّ لحلم الأمومة المزروع في قلب كل أنثى بالفطرة التي فطره الله عليها، ثم أتممتُ العام والعامين وبدأت تتسلل سنوات عمري وشبابنا أنا وزوجي الواحدة تلو الأخرى دون أن يظهر حلمنا للنور، وبعد سنواتٍ من عدم الإنجاب قُمنا بإجراء العديد من الفحوصات الطبية، والتي أفادت بعدم إمكانية حصول الحمل، فقمنا بمحاولاتٍ عديدة بعضها داخل المملكة العربية السعودية والبعض الآخر خارج المملكة وذلك سعيًا لأن يُكرمنا الله بطفلٍ يملأ أيامنا وتقرّ به أعيننا، لكن إرادة الله أملت أن لا تكون هناك أي نتيجة، ولا نُرزق بطفل.
بدأتُ بالتفكير في أمرٍ آخر وهو أن أتوجّه إلى دور رعاية الأيتام، أو حتى مجهولي الوالدين وأن أقوم باحتضان طفل وأكفله وأضمّه إلى منزلي وبذلك أغدق عليه عطف الأم التي حُرم منها، وأسعد به أنا وزوجي في حياتنا.
عرضتُ الفكرة على زوجي حينها بكل شوقٍ وأمل أن يجد في هذا الخيارِ حلاً ملائمًا لنا بعد أن أغلقت أبواب وسُبُل الأطباء في وجهنا، وبقي هذا الباب مفتوحًا أمامنا على مصراعيه، إلا أنه كان رافضًا للفكرة ولم يكن متقبلاً لها بتاتًا، فحاولت إقناعهُ كثيرًا إلا أنه لم يستطع تقبل ذلك وفضّل القناعة بما قسمه الله لنا والرضا بما بين أيدينا من نعم وترك هذا الأمر للأيام.
وعلى مدار السنوات كان الأملُ في قلبي لا يخبو، بل كانت فكرة الاحتضان تراودني وتتردد عليّ كثيرًا بين الفينةِ والأخرى فأحاولُ إقناعه مجددًا، حتى أنني تحدّثتُ يومًا إلى إحدى قريباتي وهي زوجة ابن أختي بأن تُرضع لي الطفل المحتضن في فترة رضاعتها لطفلها الرضيع في حالة تم اقتناع زوجي واحتضان الطفل، وذلك حتى يُصبح هذا الطفل ابن أختي بالرضاعة، وأكون أنا خالة والده بالرضاعة، وبذلك تُحل المسائل الشرعية بأن يصبح يحلّ لي احتضانه حين يكبُر ولا يكون كالرجل الغريب في منزلي، ولم تُمانع أبدًا بل رحّبت بذلك وكانت على أتم الاستعداد، لكن زوجي لم يستطع تقبّل الأمر ولم يوافق على فكرة ومشروع التبني. ومع إصراري وتعلّقي بالأمر وجدتُ زوجي يردّ عليّ ويحثني بالصبر قائلاً: فلتصبري أنتِ، وإن شاء الله تربّين طفلاً من صُلبك.
وكنتُ أستغربُ من كلمته هذه كثيرًا، حتى مرّت الأيام والسنين وقدر الله أن ينتقل زوجي ورفيق دربي إلى رحمة الله إثر مرضٍ كان يعاني منه.
وحينها فقدتُ الأمل ونسيتُ الأمر تمامًا. كما توفيت والدة زوجي -رحمها الله تعالى- قبيل زوجي بزمنٍ يسير وقد كانت تسكنُ معنا وتؤنسُ وحدتنا فخلا البيت من بعدها رحمها الله.
وعلى صعيدٍ آخر؛ تزوّج أخي (غير الشقيق) وهو الأخ الوحيد لي، فلي أخواتٍ وأخٌ واحد فقط، وأكرمه الله بابنٍ لهُ أسماهُ (أزهر)، ولهذا الاسم قصةٌ أخرى، فقد كان لجدي لوالدتي -رحمه الله- قصصٌ حزينة مع أبنائه الذكور ودائمًا ما يتوفاهم الله إليه، وقد تُوفي له ثلاثةٌ من الأبناء الذكور، قبل أن يأتي له ولد واحد، فلذلك اختار أخي أن يُسمي ابنه باسم أخيه الأكبر الذي تُوفي رحمة الله عليه.
ومنذ أن وضعت زوجة أخي مولودها الأول أزهر حتى ظلّت تتردد عليّ كثيرًا هي وأخي ويرجوني أن أقبل ابنهم (أزهر) ابنًا لي، يكون عوضًا لي عن الولد وذلك محبةً منهم لي ورغبةً في إسعادي وغايةً في ثقتهم ونبلهم معي فقد قرروا منحي أغلى ما يملكون، قطعةً منهم وقرة عينهم الأولى.
ولكنني رفضتُ ذلكَ رفضًا قاطعًا فما كان لي أن أبعد طفلاً عن والديه لينتقل للعيشِ معي.
مرت الأيام والأشهر وحين أكمل (أزهر) الستة أشهر الأولى من ميلاده أصبحت والدته حاملاً في طفلها الثاني، وجاءت إليّ بصحبةِ زوجها (أخي)، وأخبراني بأنهما اتفقا على أنني ما دمتُ قد رفضتُ ولم أقبل أن آخذ (أزهر) طفلهم الأول، فهم يرجون أن أقبل منهم ابنهم الثاني المرتقب، بمجرد أن تتم ولادته ويأتي إلى الدنيا ويكون ابنًا لي، ويبقى أزهر مع والديه، وظلّوا يلحّون عليّ أن لا أردهم هذه المرة وأقبل بقرارهم.
ثم مرّت الأيام، ولم يكُن أحدنا حينها يعلم ما تحمله لنا من أقدار، كنا نتحاور ونخطط وندبّر ونفكر، وقدر الله ماضٍ وحكمته في كل شيءٍ تسير بنا إلى ما لا نتوقعه، حين أصبحت زوجة أخي في شهرها الخامس من الحمل شاء الله أن تتعرض هيَ وجنينها وأخي وابنهم (أزهر) إلى حادث سيرٍ مروّع وانتقل على إثر هذا الحادث الحبيبين أخي وزوجته وجنينهما إلى رحمة الله تعالى، كان (أزهر) معهم في ذات السيارة إلا أن رعاية الله حفّته وشاء الله أن يكتب له عمرًا مديدًا ولم تحِن ساعة رحيله، ولم يُصَب بأيّ خدشٍ سبحان الله، كان عمره حينها فقط ١١ شهرًا، أي أنه لم يكمل العام الواحد برفقة والديه -رحمهما الله- وأخيه المنتظر الذي لم يراه بعد.
مرّت أيام الفاجعة الأولى ثقيلة على جميع العائلة والمعارف والأصدقاء، كانت الصدمة فوق الاحتمال، والمصاب كبير، فقد كانوا في ريعان شبابهم رحمهم الله ومن أطيب من عرفنا خُلُقًا ورقة في القلب، وعطفًا وعطاءًا وأكبر ما يدل على ذلك هو عرضهم عليّ أن يهبوني ابنهم منذ بداية حياتهم الزوجية. وبعد أن مرّت الأيام الأولى للعزاء، بدأت العائلة في النظر في موضوع (أزهر) الرضيعُ الصغير المشتت الذي بقي بيننا، دون أن يُدرك عقله الصغير ما الذي جرى وما الذي يحدث؟ وأين والديه عنه؟ وهو بأشد الحاجة إلى قلبٍ يحتويه، وحضنٍ يحتمي بهِ، وشخصٍ يؤويه، وكان حينها قد وقع اختيار كبراءِ العائلة بعد المشاورات وتقدير المصالح -من جميع النواحي- هو أن أحتضنه أنا وأضمّه إليّ.
فوجدتُ لي ابنًا بعد سنينٍ طويلة من اليأس، ووجد له أمًا عطوفًا تُغدق عليه من حنانها وعاطفة أمومتها حتى يرتوي ويكتفي.
أصبح أنيسي ورفيق الدائم وحبيبي الصغير الذي لا أفارقه، وها هو الآن في عمر السبع سنوات يكبرُ أمام عيناي تحفّه رعاية الله ثم رعايتي ومحبة الجميع له من حولنا.
وتذكّرت مقولة زوجي -رحمه الله- لي حين قال لي: اصبري وستربين من صُلبك! كنتُ لا أفهم مقولته تلك وأستغربها كثيرًا ولا أجد لها تفسيرًا أو طريقا منطقيًا، ومرّت الأيام وحصل ما كان يخبرني به.
وقد كتبت زوجة ابن أختي هذه الكلمات حين رأت حينها صورةً تذكارية لـ(أزهر) -حفظه الله- مع جده -رحمه الله-:
أيا جدي الغالي تبسم
فهذا الخيرُ بين يديك أزهر
من بين حزنٍ وأسًى وتأثُر
أزهر الخير، وخيرُ الله أكثر
ربٌ رحيمٌ أنزل الأمر وقدّر
صبّر القلوبَ وعزّاها بأزهر
أيّ لطفٍ أيّها الأزهرُ تحملُه؟
أيّ آمالٍ فيك ستنمو
أيّ احلامٍ ستُزهر!!
أيّها الأزهر؛ كُن قرةً للعين
كُن صالحًا، كُن مُصلحًا
كُن للحقّ دومًا مُظهر
قل دائمًا؛ أيا جدّي تبسّم
فأنا أزهر، وخيرُ اللهِ أكثر.