مذكرات
مذكرات حقيقية مع صديقي الذي أصيب بكورونا
بلهجة فاترة ومحايدة وكأن الأمر لا يعنيه أخبرني أخٌ نادر من نوعه، وصديق عزّ وجوده بأن نتيجة فحصه بفيروس كورونا إيجابية.
بعد يوم من إصابته هاتفته وكنا نتنازع استضافة ضيف غالٍ على كلينا، كان يقول بلهجة عادية أيضاً أنه سيفحص بعد يومين وستكون النتيجة سلبية وبالتالي سيتمكن من استقبال الضيف.
في اليوم الثالث اتصلت به وتوقعت حواراً عادياً كالذي دار بيننا لكنه لم يجب، وأجابت زوجته وهي تبكي بهلع وأخبرتني أن حالته ساءت فجأة وأنه يعاني من نقص حاد في نسبة الأكسجين، وأنهم الآن في مركز صحي يتلقى تبخيرة وعلاجاً وريدياً لالتهاب القصبات، ارتعدت أوصالي من شدة خوفي عليه، وبدأت تأخذني ظنوني السيئة كل مأخذ.
لم يطل الأمر فبعد ساعات تم نقله إلى المستشفى ليكون تحت رعاية طبية مباشرة، لأن فيروس كورونا ضرب رئتيه بقوة، تم وضعه في قسم العزل ومُنعنا من زيارته فبات وحيداً مع هواجس الخوف من هذا المرض القاتل، وزاد الأمر سوءاً علينا وعليه أن عمّ زوجته الذي هو في عمره توفي متأثراً بالفيروس بعد أن مكث عشرة أيام في العناية المكثفة، ولم تسمح لنا صفحات التواصل الاجتماعي كالعادة بإخفاء الخبر عنه.
رجحت عندي مصلحة رؤية أخي ودعمه على إجراءات منع الزيارة، فتمكنت فجر اليوم التالي من كسر الحصار المفروض عليه وزيارته مع أخذ الاحتياطات اللازمة، تأثرت جداً عندما رأيت صديق العمر لا يستطيع أن يستغني عن الأكسجين المساعد في المستشفى لدقائق، فقلت في نفسي: سبحان الله القاهر فوق عباده، منذ يومين فقط كنا نتحدث بكل ثقة بأنه سيتجاوز الإصابة وكأن إصابته ليست إلا رقما يُضاف إلى حصيلة مصابي ذلك اليوم، وأن حصوله على فحص سلبي هو تحصيل أمر حاصل، وكأن تلك النتيجة في جيب أحدنا وننتظر فقط يوماً أو يومين لإبرازها.
إلا أنه ومع تلك الحالة الصعبة، قد منّ الله عليه وعلينا بانفراجات في أنفاسه وكان من أهم البشائر أن انهيار الرئة توقف مع الانحسار الضئيل للالتهابات وبالتالي فلن يتم نقله لأجهزة الإنعاش الصناعية، وسيتم الاكتفاء بمساعدته بأنبوب الأكسجين، وصرت أجد في حالته ما يستدعي التفاؤل ذلك أنه صار قادراً على الاستغناء عن أنبوب الأكسجين لبضع دقائق، أو عند مقارنته بجاره في الغرفة الذي تهوي عنده نسبة الأكسجين من 90 إلى 60 بمجرد أن يذهب لحمّام يبعد مترين.
في تلك الأيام لم يفارقني الشعور بالامتنان لله تعالى على أن منحني أنفاساً طبيعية تملأ رئتيّ بالأكسجين بسهولة ودون تحضير مسبق ولا تفكير وتدبير، وبدون فاتورة مستشفى تزيد على آلاف الدنانير.
قلت: كم تغمرنا نعم الله من أعلى رؤوسنا إلى أخمص أقدامنا، دون أن نشعر بتلك النعم، وكيف يصير حال أحدنا عندما ينزع الله منه نعمة واحدة من تلك النعم المنسية؟!
الحمد لله بدأ أخي بالتعافي ببطء، ومع أنه خرج من المستشفى إلا أن موّلد الأكسجين بات رفيقاً مزعجا له، يصدّع رأسه بضوضائه، ويحول بينه وبين الخروج من المنزل ولو لنصف ساعة.
الله تعالى الذي امتحن أخي فصبر هو الشافي الذي أنقذ أخي من قبضة الموت، وكتب له سيناريو يختلف عن الكثيرين الذين يقضون أسابيع تحت أجهزة الإنعاش ثم يغادرون الحياة، في كل يوم ومع اليقين بدعاء الله الشافي تتحسن حالة أخي ويستغني عن مولد الأكسجين لفترات أطول فالحمد لله رب العالمين.
هو وأنا ومن حولنا بدأنا نشعر بقيمة وغلاوة أنفاسنا وأنها نعمة تستحق الشكر، ليس شكر اللسان فحسب بل بإقرار القلب بما أنعم الله علينا في كل ثانية من أعمارنا، وبطاعة الله بجوارحنا. إن استصحاب هذا الشعور يرقق القلب ويرفع منسوب شكر المنعم على نعمه التي لا نستطيع إحصائها.
إن ما حدث مع صاحبي ذكرّني بقصة غني غافل عن ربه أراد الله به خيراً عندما أدخل إلى العناية المركزة بعد انقطاع أنفاسه وتم وضعه تحت التنفس الصناعي لأيام ثم بدأ يتعافى، وعندما أعلمه ابنه بقيمة فاتورة المستشفى التي تبلغ آلاف الدنانير بكى، فتعجب ابنه وقال: هوّن عليك يا أبي فصحتك أهم من المال. أجاب الوالد فقال: يا بني أنا لا أبكي لضياع الآلاف فقد ضاعت الملايين، لكني أبكي لغفلتي عن ربي فقد عشت أكثر من نصف قرن وأنا أحصل على الأكسجين من الله بالمجان دون أن أشكره، والآن أدفع الآلاف للبشر مقابل أيام تحت جهاز تنفس صناعي! كانت تلك الحادثة سبباً في أن يستيقظ ذلك الغافل من رقدته ويعود إلى رحاب الله شاكراً.
أما صديقي فلم يكن غافلاً عن ربه، كان مؤدياً لما افترض الله عليه، محسناً للناس، عفّ اللسان، ويتورع عن أبواب من الشبهات حتى لا يقع في الحرام، وفي مرضه ذاك كان راضياً عن ربه وشاكراً لأنعم الله بما فيها مرضه، فقد رأى أنّ الله استخدمه ليذكّر من حوله بنعمة واحدة من النعم التي لا يشعرون بها ويغفلون عن شكرها، بل يسخطون على أحوالهم أو فقرهم غير مدركين أنهم يملكون نعمة مجانية عظيمة هي تلك الأنفاس الميسّرة.