أخبار حول العالم
توقف قلبي لمدة ٥٠ دقيقة ليعلِّمني معنى الحياة مع عائلتي!
بقلم: خالد إسماعيل، أب لطفل
نصحني أحد المستشارين بأن أكتب هذه القصة لمساعدتي على تخطي ما حصل معي سابقاً قبل أشهرٍ من الآن ولتذكيري بالدرس الوحيد الذي لا أريد نسيانه أبداً. اليوم، أصبح عمري ٣٦ عاماً بادئاً للفصل الثاني من حياتي..
يوم الأحد الثامن من نيسان عام ٢٠١٨:
أذكر أني استيقظت في غرفةٍ بيضاء مليئة بالآلات والصفير غير المنقطع. غرفة شديدة البرودة مع إحساس في جسدي وكأني قد أنهيت لتوِّي سباقاً ماراثونياً. أنظر حولي لأرى وجه زوجتي الدافئ والتي بدا عليها وكأنها ترى شخصاً لأول مرة منذ أعوام تبتسم لي قائلة "مرحباً بعودتك". استغرقتُ بضع ثوانٍ قبل أن أتمكن من الابتسام لها والرد عليها بأول شيء خطر لي: "أين مالك؟ (ابني)". لتخبرني بأنه في الحضانة.
تفاجأتُ عندما علمتُ بأني كنتُ غائباً عن الوعي في اليومين الأخيرين وكأنني لم أكن موجوداُ! لقد كان الأمرُ صعباً لكن مطمئناً نوعاً ما كوني لا زلت أملك القدرات الإدراكية الأساسية لأشعر وأُفكر. أنا موجود الآن وهذا بحد ذاته كان نعمة بعد أن علمت بما مررت به خلال اليومين السابقين.
يوم الخميس الخامس من نيسان 2018:
كان يوماً عادياً في النادي الرياضي، قرر فيه مدربي أن يرفع من شدة جلسة التمرين الخاصة بي، كنتُ أشعر بلياقتي الكاملة وقدرتي التحمل لدي كانت في أوجها، فقلت لنفسي "لم لا؟ دعنا نقوم بالمزيد من التمارين".
كان شعوراً رائعاً خاصة وأني رحتُ أقرأ في الآونة الأخيرة عن التركيز الكامل للذهن وتطوير المرونة. فحاولت التمرن على تقنية جديدة تساعد في تشتيت عقلي ورفع تحملي والتي بدت فعالة. وما أن قاربت الجلسة على الانتهاء حتى شعرت بالغثيان، حتى أن حدسي أشعرني بضرورة التوقف وعدم التهور أكثر من ذلك. فعلاً ذهبت إلى الحمَّام شاعراً بدوار عادي ولا يستدعي أي قلق حتى حينه. لكني لم أشعر بأي تحسن، كان نفسي قد بدأ بالضيق ومع ذلك لم أشعر بأي شيء خطير. حتى أن مدربي لحق بي بعدها ليطمئن عليَّ، فأجبته بصوتٍ منخفض أن كل شيء على ما يرام. وكل ما كان يدور في داخلي حينها أني لا أريده هو أو غيره بأن يصفوني بأني ذلك الشاب الضعيف الذي تقيأ في النادي الرياضي.
ففي النهاية أنا أعيش في مجتمعنا الشرقي حيث يقوم الناس دائماً بالحكم على الآخرين وإطلاق الألقاب عليهم. فوقفت على قدمي واستطعت المشي لعدة ثوانٍ فقط، شعرتُ وكأن أحدهم يدوس على صدري، حتى أن الهواء الذي كان يدخل رئتي كان بارداً جداً لدرجة أني وددتُ لو استطعت أن أتوقف عن التنفس.
لم أدرك ما الذي حصل معي. أذكر أني أُصبت بالهلع وبأن الناس من حولي لم تستطع معرفة ما عليهم فعله. حتى صرخ أحدهم بلهجة بريطانية "اتصلوا بالإسعاف، حالاً!". حضرت زوجتي في نفس الوقت مع سيارة الإسعاف، وبعدها شعرتُ بذراعي اليسرى مخدرة وبدأت أفقد الوعي.
وعندما وصلنا إلى قسم الطوارئ شعرتُ بوجود عشرة أشخاصٍ رائعين حولي. لقد كان أمراً مُطمئناً رؤية زوجتي ووالدها معي في الوقت الذي أخبرني فيه الطبيب بأن ما حصل معي كان أزمة قلبية وبأنهم اضطروا إلى إدخال دعامة في شرياني. توقف التفكير لدي واعتقدتُ بأني لم أعد أملك وقتاً كافياً، أمراً واحداً كان يجول في خاطري حينها وهو الندم لكن دون أن أعرف السبب. كنتُ مهووساً بفكرة أني سأفتقد ابني وزوجتي التي كانت تحاول أن تهدئني مكررة "لا تقلق، ستخرج قريباً وأبكر مما تعتقد، وستكون برفقته". كم أننا أغبياء وغير محظوظين! نضيع أجمل لحظات حياتنا مع أحبتنا، فنغيب عن مشاركتهم حياتهم ونحن نعلم بأنَّا سنندم يوماً ما ومع ذلك نستمر في الانشغال عنهم...
وكان هذا آخر شيء أذكره قبل أن أغُطَّ في نومٍ عميقٍ وأدخل عالماً لا أذكر أني أتذكره أو أعلم بوجوده من قبل. لم يكن هناك أي لحظاتٍ مرتجعة من الذاكرة. لم يكن هناك أي ضوء في نهاية هذا النفق المظلم، في الحقيقة لم يكن هنالك أي نفق لأبدأه! كنتُ ضائعاً في مكانٍ فارغ ومدقع السواد... أجل وصلتُ إلى الموت!
قيل لي لاحقاً بأني أمضيت خمسين دقيقة في ذلك المكان، خمسين دقيقة كاملة أتلقى فيها الإنعاش القلبي الرئوي والصدمات الكهربائية لتعيد إلى قلبي نبضةً واحدة!
تم إخباري بالعديد من القصص خلال إقامتي في غرفة العناية المركزة. فقد أخبرني أحد الأطباء بأنهم استخدموا جهاز الصدمات الكهربائية (21 مرة)، وأحد أصدقائي أخبرني بأنه كان هناك واقفاً يشاهد عملية الإسعاف كاملة وبأنه قام بعدِّ (18) صدمة كهربائية. طبيبٌ آخر أخبرني بأن قلبي عاد إلى طبيعته قبيل اتخاذهم لقرار قص قفصي الصدري، لكن الأمر الذي أثَّرَ بي حقاً وأعتقد بأنه السبب في كتابتي لهذه القصة اليوم هو الحديث الذي لا ينسى والذي جرى بيني وبين أحد الممرضين الكيِّسين؛ فقد أخبرني والدموع تملأ عينيه بأنه كان قد بدأ بتحضير الوثائق الرسمية الخاصة بوفاتي، واستجماع شجاعته لينقل الخبر إلى عائلتي وأصدقائي وبأنه سيعزِّيهم بقوله بأنهم سيحزنون عليَّ لبعض الوقت لكنهم في النهاية سينسونني!
أنا اليوم هنا معكم، أكتب قصتي بعد مضي أربعة أشهر من تجنبها. مررتُ بمراحل كثيرة قبل أن أصل إلى هنا أنا ومن حولي؛ بدايةً بنكرانها ومن ثم الانعكاسات التي طرأت بسبب هذا النكران، وأخيراً القبول، قبول ذلك الموت.
هذه المشاعر المثيرة للجدل هي أفضل مُعلِّمٍ في الحياة. وعلى الرغم من العلم والخبرة التي اكتسبتها في السنوات الماضية لم أتعلَّم من شيءٍ أكثر من هذه القصة التي أخبرتكم بها لتوي. علمتني بأنه في خضم البحث عن معنى لحياتنا نفقد تركيزنا في حاضرنا متطلعين إلى المستقبل. مع أن الحقيقة وراء وجودنا في هذه اللحظة هي لعيشها والاستمتاع بها فقط.
اكتب كل هذا الآن وأنا على دراية تامة بأنني، بعد فترة من الزمن، سأعود مجدداً لمطاردة أحلامي. إلا أنني سأكون متواجداً لمن أحب في المستقبل. وحتى ذلك الحين، أتمنى ألا أنسى الأمر الوحيد الذي شعرت بالندم حياله بعد تجربتي هذه وهو غيابي عن عائلتي وعدم استغلال وتقدير اللحظات التي كنت سأقضيها معهم عندما سنحت لي الفرصة!
*صدر المقال باللغة الإنجليزية في حساب خالد إسماعيل على موقع LinkedIn