العلاقات
الاستماع التعاطفي: توقف لحظة عن التفكير.. استمع!
تعمل آليات التفكير والشعور في دماغ الإنسان بشكل مستمر نهارا وليلاً، ونحن نيام أو مستيقظون، بتركيز منا أو بغير تركيز، أثناء تكلمنا بجدية في موقف يتطلب ذلك أو حتى بمزاحنا مع صديق. فترانا حتى عند استماعنا لحديث الآخرين، نستدعي ملفات الذاكرة بما فيها من أفكار قديمة وجديدة، تعبر عن خبرات مررنا بها أو معلومات سمعنا عنها، أو ترتبط بمهارات طورناها مع الوقت. أحكام قررنا إصدارها وقواعد ذهنية تعلمناها منذ الصغر فصارت حقيقة راسخة في مخيلتنا، نقاوم بشراسة كل من يحاول المساس بها.
كلها أفكار آنية تضيء وتنطفئ في أقل من جزء من الثانية، لكنها تكفي لاستخراج ما في ملفات الذاكرة، واستفزاز ما فيها من أفكار، وبذا تجعلنا قادرين على إصدار الحكم على كل كلمة نسمعها في كل لحظة... فهذا البائع المستغل الذي تقاعس عن دفع بقية الفكة لأختي قبل أسبوع! وهذا الشاب ضعيف الشخصية والذي يسهل عليَّ إقناعه! وتلك الجارة النمامة التي لا تفوتها "شاردة ولا واردة"، وذلك الموظف "أبو عين زايغة"، وهذا الطفل "النقاق"، وتلك المديرة المتعجرفة التي لم تحب أحداً في حياتها!
تلك هي ألعاب الدماغ! التي لا تنفك تتركنا نرتاح ونريح مخزون العاطفة الذي يهدأ ويثور مع كل سيال عصبي يشعل فكرة في هذا الدماغ المعجزة! من المهم جدا أن نتعلم أن نعي بتأثير صوتنا الداخلي على تفكيرنا وسلوكنا حتى نحسن فهم مشاعرنا وأفكارنا بمضمونها الحقيقي، واختبار صحتها من خلال احتكاكنا بمن حولنا. لكن من الخطير جدا أن نستسلم لهذا الصوت الداخلي بشكل كلي، ونهمل المؤثرات الخارجية النابعة من تفاعلاتنا البناءة مع الناس ومع البيئة التي نعيش فيها، لأن ذلك يؤثر على فهمنا لواقع الحياة خارج جدران النفس. بمعنى، أن انغماسنا في الاستماع للمصدر الداخلي للمعلومة دون الاستماع للمعطيات الخارجية يؤثر على صحة تفسيرنا لما يحدث معنا ويضعف من قدرتنا الحقيقية على التواصل مع الآخرين، حتى أقرب الناس!
يعمد دماغ الإنسان في كثير من الأحيان إلى اتخاذ طرقٍ مختصرة كمحاولة منه لتفسير المؤثرات التي تحيط به.
ومن هنا تراه يبني التوقعات والتنبؤات بتشبيه السيناريوهات الحالية بما تحفظه الذاكرة من معلومات وتجارب سابقة ليقارن بينها ويربط بين التذكر والفهم والتوقع والتخيل بشكل تلقائي لا نعي به في معظم الأحيان.
ومن هنا إن أردنا فعلا تطوير قدراتنا كآباء ومربين، أو أزواج أو حتى أبناء، زملاء في العمل أو أصدقاء، توجب علينا إتقان مهارة الاستماع التعاطفي Empathic Listening، وهو الاستماع بنية فهم محتوى الكلام المعنوي والعاطفي. سنقوم في هذا المقال بالتطرق إلى ثلاث خطواتٍ بسيطة يمكنك تدريب نفسك عليها من خلال تواصلك بشكل طبيعي مع من حولك وبشكل يومي، وسنقوم في مقالٍ لاحق باستعراض ثلاث خطواتٍ أخرى. تأكد أن ذلك سيجعل منك شخصاً أغنى بمعرفتك، وحكمتك ومعارفك أيضاً!! لذا عندما يتحدث إليك أحدهم:
أولاً: توقف للحظة عن التفكير.
اترك ما بيديك للحظة، لا تظن أنك ستخسر شيئاً، امنح متحدثك الاهتمام بما يقول. فعندما تتحدث إليك زوجتك، اترك هاتفك النقال للحظة، واستمع للحديث، فتلك الأحاديث اليومية إن لم تحمل في طياتها معلومات ملحة، إلا أنها ترفع من وعيك بما يدور حولك، وتجعلك أقدر على التفاعل بشكل بناء معها، بالإضافة إلى أنها تقوي علاقتك بزوجتك وثقتها برأيك وبدورك في حياتها.
ثانياً: انظر في عيني محدثك.
النظر في عيون محدثك لا يكون فقط احتراما له، إنما هو لأن العيون ترى من المعاني ما قد يكون مهما جدا لمحتوى الحديث ولم تفصح به الكلمات. عندما يطلب منك مديرك طلباً ما، أنظر في عينيه، لأنك ستعرف مدى أهمية الأمر والحاجة من ورائه. وفي كثير من الأحيان سيساعدك ذلك في استيعاب الحالة العامة وسرعة استجابتك لطلب مديرك، ما سيرفع من كفاءتك ومكانتك في عينيه. فلا تضيع فرصة الكشف عن محتوى المشاعر، لأن الكلام قد يكون مقتضباً إلا أنه يحمل في طياته معان وحاجات متعددة، والتي عادة ما تفصح عنها العيون بدون كلام.
ثالثاً: أشعر محدثك بوجودك معه الآن !
استمع فقط، استمع لما يقال، أنظر في عيني متحدثك وامنحه الاهتمام، وأشعره بأنك موجود، حتى تشعر أنت أيضا بأهمية وجودك في حياة من حولك. علينا أن نحاول أن نفهم معنى الكلمات التي يقولها لي طفلي، تحدثني بها زوجتي، يوجهني بها معلمي أو مديري، وينبهني إليها صديقي.
حتى نحسن فن التواصل الإنساني بشكل حقيقي، ونعزز الكاريزما الخاصة فينا، علينا أن نتوقف للحظة عن التفكير ونستمع بقلبنا لما تقوله أجساد محبينا أو حتى كارهينا، ففيها الكثير من الحقيقة التي قد تعلمنا الكثير عن أنفسنا.
إن التوقف عن التفكير عندما يتكلم أحدهم معك، سيزيدك تواضعا لأنك ستحجم ذلك الصوت الأناني الذي تسمعه في الخلفية "لا تثق بما يقول فهو يغار منك"! أو "هي تكذب مؤكدا لأنها لن تتمنى لك الخير"! في هذا المقال أدعوكم إلى تجربة الاستماع بهدف الاستماع، لأنها مهارة تثري نفسيتك وتقوي من ثقتك بنفسك. دع التفكير جانبا للحظة وستجد أنك ستتعلم كيف تفكر بوجهة نظر الآخر وليس وجهة نظرك التي تثق بها وتعتقد أنها حقيقة لا يجب العبث بها. عندما تستمع للآخر ستصبح أكثر مرونة وحكمة، عندما تستمع أكثر ستشعر بقوة داخلية تضاهي تلك القوة الأنانية التي تستفزك لتثبت أن رأيك هو الأصح. عندما تستمع أكثر تصبح شخصا محببا يأنس الناس بصحبته. عندما تستمع أكثر تصبح أوعى بأهميتك، وستجد حلولا أكثر إبداعا لأن مصادرك للمعلومة تعددت ونظرتك للأمور صارت أشمل. حاول أن تتوقف عن التفكير عندما تتحدث مع أحدهم وليكن هدفك هو الاستماع فحسب، لا تسقط كل معنى تسمعه على نفسك، فتزيد جلدها وتعذيبها! لا تفسر كل كلمة تسمعها من قاموسك وتصدر الأحكام، فتبذل الطاقة العاطفية والذهنية في غير مكانها. استثمر مشاعرك وقدراتك الفكرية وطاقتك في تشذيب الحقائق الراسخة في ذاكرتك والتي لا تتعدى كونها رأي بشخص في موقف مررت به جعلك تصدق أنه يقين.