قصص أمهات
تشخيص طفلي بطيف التوحد لم يمنعه من التميز والإبداع
بقلم: حسين الشهابي، أب لطفلين
يقولون.. الولد سر أبيه!
وأنا كغيري من الرجال في هذا الكون تمنيت أن أكون أباً لدي من الأبناء ذكوراً وإناثاً ما تقر به عيني.. أحلم بمجيئهم وأتصورهم وهم يكبرون ويصنعون أحلامهم ويحققون طموحاتهم في هذه الحياة، وأسأل الله أن يكرمهم بعطاياه وأن يمنحهم من الأقدار أجملها..
هذه كانت رغبتي العادية والبسيطة جداً.. لكن هدية الله لي كانت أمراً مختلفاً تماماً..
في عام 2002 وتحديداً في اليوم التاسع من شهر آب، حباني الله ورزقني وزوجتي بطفل جميل.. طفلي علي
علي كان فرحتنا الأولى وعنوان لسعادة جديدة تدخل منزلنا وحياتنا..
كان طفلاً كباقي الأطفال، إلا أنه كان شديد الذكاء والملاحظة والفطنة، وطيلة السنوات الثلاث الأولى من عمره كان تطوره طبيعياً جداً، إلى أن بدأنا نلاحظ عليه بعض التغيرات التي لم نعتدها ولم نعرف أسبابها، ولا كيف نتعامل معها!
حيث ظهرت عليه بعض العلامات الجديدة مثل دخوله في حالة من السكوت والصمت واستبدال الكلام بالإشارات، إضافة إلى تشتته الواضح فلم يكن يركز في لعبة واحدة بل ينتقل بين عدد من الألعاب دون أن يكمل أياً منها، كما أنه لم يعد يستجيب لأي شيء وكأنه في عالم آخر.. عالمه الخاص.
فانطلقنا في رحلة البحث والذهاب والإياب بين الأطباء حتى جاء التشخيص بأن طفلنا مصاب باضطراب طيف التوحد!
كانت صدمة كبيرة بالنسبة لنا.. ليس اعتراضاً على أمر الله ومشيئته، إلا أن كل تلك الأحلام والرغبات التي رسمناها لطفلنا شعرنا وكأنها تهدم أمام أعيننا في لحظة واحدة!
لكن بحمد الله، استطعنا تجاوز هذه المرحلة سريعاً، وبدأنا مشوار التشخيص والعلاج مع طفلنا، مررنا بالكثير من الصعوبات والعقبات منذ لحظة التشخيص الأولى، وكان أبرزها اصطدامنا بالمجتمع وموروثاته وثقافته عن الأطفال من ذوي الإعاقة والتعامل مهم، فمجتمعنا سواءً على مستوى الأفراد أو المؤسسات لا يعي أهمية دوره في تقبل ومساندة الأطفال من ذوي طيف التوحد وأهمية دمجهم ليكونوا أشخاصاً فاعلين ومنتجين كغيرهم.
بالإضافة إلى قلة جاهزية الدوائر والمؤسسات المسؤولة لاستقبال هؤلاء الأطفال وتهيئة الظروف المناسبة لهم ولحالاتهم الخاصة، كل هذا كان سبباً في جعل مهمتنا مع ابننا أصعب بكثير مما ينبغي لها أن تكون..
لكننا لم نستسلم لذلك، ولم تقف هذه العقبات أمام رحلتنا مع علي، كنا مصممين على خلق واقع آخر له بالرغم من كل شيء.. واقع أكثر تقبلاً ودعماً، يكبر فيه ويبدع ويتفوق تماماً كغيره من الأطفال الآخرين.. فوجهنا جل اهتمامنا إليه، كنا وما زلنا بالنسبة له والديه وإخوته وأصدقائه وحتى مدربيه!
بالنسبة لي أرى أن الأم لطفل من ذوي طيف التوحد هي مصدر القوة والدعم والعنصر الأساسي الذي يمكنه أن يحدث الفرق!
وكذلك كانت زوجتي.. أم علي..
فقد ارتضت منذ اللحظة الأولى أن تحمل هذه الأمانة والاختبار بحب ورضا، فصار تعليم علي وتدريبه ورعايته شغلها الشاغل، هي لم تكن أمه وحسب بل معلمته وصديقته الأقرب إليه، تفهمه وتفهم ذلك الغموض الذي يحيط به ويبعده عنا..
كيف لا؟! فهذا التقبل والعطاء والحب المبذول بغير حساب.. من غير الأمهات يمكن أن يعطيه ويمنحه؟!
بالطبع، منذ البداية كانت هناك شخصيات لا ننسى لها دورها في مساندتنا وإرشادنا في كل ما نواجهه مع علي، وخصوصاً عائلتي التي كانت متقبلة جداً ومساندة لي بالكامل ومنذ البداية، وكانت مهيئة تماماً لتقبله والتعامل مع سلوكياته وتصرفاته.
علي يبلغ من العمر الآن 17 عاماً، ويتميز بالكثير من الإمكانيات والمهارات المدهشة، من بينها حبه للغات، فقد استطاع أن يتعلم ويتقن على صغر سنه أربع لغات هي: العربية الفصحى والإنجليزية واليابانية والصينية، وهو يحاول الآن أن يطور من قدراته في تعلم اللغة الاسبانية والفرنسية والكورية. ونحن نبحث له الآن عن فرصة لمساعدته في أن يكون مترجماً او حتى مرشداً.
وكان مما يتميز به علي أيضاً هو ملاحظته الدقيقة لجميع التفاصيل من حوله، بشكل مثير للاهتمام والدهشة، متفوقاً بذلك على كثير من أقرانه ومن هم في مثل سنه، إضافة إلى شغفه بعوالم الحيوانات والفضاء والطبيعة حتى اجتمع لديه كم لا بأس به من المعلومات الملفتة والغنية.
إلا أنه وبالرغم من كل هذه القدرات والإمكانيات، لم يكن بالإمكان أن يكمل علي دراسته الأكاديمية، وذلك بسبب نقص الخطط المدرسية الداعمة والبيئة المهيئة لاستقبال مثل حالته، فطرقنا الكثير من الأبواب واستمررنا بدعمه بشتى الطرق ليكون طفلاً من ذوي الإعاقة ذو مهارات عالية، وشخصاً فاعلاً في المجتمع، مستقلاً وقادراً على القيام بكل ما يحتاجه في أمور حياته.
أما على مستوى عائلتنا الصغيرة، فإن الاهتمام بعلي لم يقتصر علي أنا وزوجتي فحسب، وإنما تشاركنا بذلك ابنتنا.. أخت علي وصديقته، لم تتركه منذ صغرها، ساندته وأحبته وتقبلته رغم مزاجيته وانفعالاته التي لم نكن نتوقعها في كثير من الأحيان، فتركت أثراً إيجابياً لديه، وكانت من أسباب تحسن الكثير من مهاراته وتصرفاته.
علي اليوم يساعدنا في المهام العائلية، ونعتمد عليه في كثير من الأمور، ونحمد الله على وجوده بيننا، فهو لم يكن يوماً عبئاً ثقيلاً علينا وإنما نعمة وكرم رباني فتح أمامنا أبواباً للرحمة والحب والتآلف..
وهو اليوم سر أبيه..
*كتبت القصة بالتعاون مع مؤسسة أمينا Amina Foundation-autism mena