قصص أمهات
قصتي مع طفلي جليل.. مرض نادر ورحلة تشخيص طويلة
قصة نرجس مصطفى، أم لطفلين
في بداية زواجي كنت أطالع وأقرأ كثيراً في كتب زوجي في التخصصات الإنسانية عن الأطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة والتعامل معهم، فمر في خيالي فجأة أنني أم لواحد من هؤلاء الأطفال أعالجه واصطحبه إلى المراكز وأتعب لأجله، لكنني غيبت ذلك التفكير بسرعة خوفاً منه، ولم أعلم بأن الله يهيئني ويعدّني لأكون فعلاً كذلك.. أماً لطفل من ذوي الاحتياجات الخاصة..
فسبحان الله الذي جعل هذا التفكير يمر في خاطري دون أن أدري لأكون جاهزة لاستقبال أكبر نعمة في حياتي.. طفلي جليل..
ولم أكن أنا وحدي من هيأني الله لذلك، زوجي أيضاً، فقد كتب الله له أن يتخصص في التربية الخاصة دون أي تخطيط مسبق ليكون جاهزاً لرعاية ابننا ودعمه بكل الطرق، فلولا تخصص زوجي ما عرفنا أهمية التدخل المبكر وفوائده!
جليل هو طفلي الأول، ولد كأي طفل عادي دون أن نلاحظ عليه أي علامات، ولم أعاني خلال حملي أو ولادتي به من أي مشاكل. لكنني وفي الأيام الأولى بعد ولادته وضعت اصبعي في يده لكنه لم يمسك بها أو يضغط عليها! هنا بدأ قلبي يخفق بسرعة واستغربت من ذلك لأنني أعرف من قبل أن الطفل الطبيعي منذ لحظة ولادته يمسك بالإصبع ويشد عليه، لكنني ومن شدة خوفي قررت أن أتجاهل هذا التفكير وأن أغيّبه.
حتى زرنا أحد أقاربنا الذي اقترب من جليل ليلاعبه، فوضع إصبعه في كفه فلم يضغط عليه، فسمعته وهو يقول: "لماذا لا يمسك بيدي؟"، شعرت وكأن الدنيا قد ضاقت بي وانهرت تماماً، إذاً، لست أنا وحدي من لاحظ ذلك! وبدأت الوساوس تتسلل إلى نفسي وأهلي يحاولون تهدئتي وإقناعي أن الأمور على ما يرام..
بعد أن بلغ طفلي عمر الشهر أخذناه إلى الطبيب وقلت له عن كل شكوكي وملاحظاتي، بأنني أشعر أن لدى طفلي رخاوة في جسمه، لكنه قال بأنه حتى وإن كان يعاني من شيء ما، فهذا لا يمكن أن يظهر الآن!
بعدها صرت أخرج به وأقمنا له حفلة صغيرة، لكنني وبينما الكل مجتمع حوله نظرت إليه وقد ازرق لونه وبدا وكأنه يبحث عن الهواء من حوله ليتنفس، كان صغيري يختنق! حملناه إلى المستشفى حيث تم إسعافه بحمد الله وبعد إجراء عدة فحوصات له تبين أنه يعاني من ارتجاع مريئي سبب له هذا الاختناق.
مرت الأيام وصرنا نلاحظ أن تطور جليل الحركي يختلف عن أقرانه، أما التواصل البصري واللغوي لديه فقد كان ممتازاً لقد كان طفلاً ذكياً! بدأنا بأخذه إلى جلسات علاج طبيعي بعمر ٦ أشهر، ومن بعدها بدأت المراجعات والإدخالات الطويلة إلى المستشفى والتشخيصات المختلفة، كل طبيب يقول بأنه مصاب بهذا المرض أو ذاك، دون أن نهتدي إلى شيء.
خضع جليل للكثير من التحاليل، تحاليل الأشعة والرنين وغيرها، لكن دون وجود تشخيص واضح لحالته وما يمر به من أعراص. ثم انتقلنا إلى الرياض مدة شهر أو أقل لندخل جليل في مركز مختص في تدليك الأعصاب، وكان يخضع كل يوم لجلسة تدليك مدة ساعة، استفاد على إثرها كثيراً.
وعندما بلغ عمر السنة والنصف توجهنا إلى طبيب اختصاصي في المخ والأعصاب مدحه لنا كثيرون، فحولنا إلى مختبر لعمل فحص الجينات الشاملة، تم الفحص وبعد انتظار طويل اكتشفنا مرض جليل، هو مرض جيني نادر يسمى المائي العصبي (SPTBN4)، ومنذ ذلك الوقت تكلفنا الكثير من الأعباء والمصاعب لنرزق بطفل سليم، حتى رزقنا بطفلتنا شهد والحمد لله.
بالنسبة لجليل، هو إلى الآن لا يستطيع الجلوس، لكن صحته وبحمد الله بخير، وهذا أهم شيء بالنسبة لي، وهو مرتاح في منزله نوفر له كل ما يحتاجه سواء من أكسجين أو بخار أو جهاز شفط وغيرها من الأدوات والمستلزمات، فهو يحتاج إلى المساعدة ولا يستطيع الاعتماد على نفسه. لديه طريقة تعبير معينة، أنا كأم أفهمه جيداً وأفهم جميع الأصوات والانفعالات التي يصدرها مهما كانت.
جليل كان يخضع لجلسات العلاج الطبيعي يومياً، وكان يتحسن ويتطور بشكل جيد، لكن مع أزمة كورونا عام 2020 انقطع عن العلاج، لأن المركز توقف عن استقبال حالات مثل حالة جليل (إعاقة حركية). لكن اليوم، وبحمد الله نحن نعيش أياماً جميلة، فقد كبرت أخته شهد وبلغت العامين، وهي تعامله بحنان وحب كبيرين، تحب أن تلاعبه وتراقصه وأن تدفع عربته وتهتم به كأنه أثمن شيء بالنسبة لها.
كأم لطفل من ذوي الاحتياجات الخاصة كنت أظن بأن المشكلة تكمن في تقبل المجتمع ونظرته لهؤلاء الأطفال، لكنني أدركت أن عائلة الطفل هي مرآة المجتمع، فالتقبل والدمج يبدأ داخل البيت وينعكس على خارجه، والآخرون يتعاملون مع طفلك بالطريقة التي تتعاملين أنت بها معه.
والآن وبعد كل ما مررت به من تحديات مع طفلي، امنيتي أن تكون أسعار جلسات العلاج الطبيعي والوظيفي والتأهيل وغيرها لهؤلاء الأطفال أقل قليلاً، لأن العبء المادي هو عبء إضافي يعاني منه أهالي الأطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة وهمٌّ آخر يمنعهم في كثير من الأوقات عن توفير أعلى درجات الدعم لاولادهم، وأتمنى أيضاً أن يكون هناك تسهيلات للأطفال من ذوي التحديات في كل مكان ولأهاليهم لأن ما يمرون به ليس أمراً عادياً أبداً.
نصيحتي لكل أم لطفل من ذوي الاحتياجات، أعطي الحرية لطفلك في مجتمعه وادمجيه، ولا تتتظري من أحد أي شيء، فأنت من تصنعين ذلك لطفلك، وشجعيه باستمرار وشجعي من حوله والفتي انتباههم للاهتمام بمشاعره. ألبسي طفلك أحسن الملابس ولا تشعريه بأي نقص، وكما تتعاملين مع أطفالك الآخرين تعاملي معه أمام الناس وفي كل مكان، عندها فقط ستكون نظرة الآخرين له نظرة طبيعية لا نظرة شفقة.