قصص أمهات
خروجي من بيت متعدد الجنسيات أثر في تربيتي لأطفالي
قصة خديجة آشورث، أم لثلاثة أطفال
لم تكن حياتي عادية أبداً، فقد ولدت لأب بريطاني وأمٍّ من سنغافورة، عشت وترعرعت في الرياض حين انتقل والدايّ إليها قبل ٣٠ عاماً تقريباً، بعد فترة وجيزة من العيش في بريطانيا، وفيها نشأت وتعلمت العربية.
كان والدي قبل إسلامه نصرانياً كاثلوكياً، فلما بلغ مرحلة عدم الرضا عن ديانته أخذ يبحث عن الحق حتى هداه الله إلى الإسلام. ولم يكن انتقال والديّ إلى السعودية في ذلك الوقت من أجل البحث عن عيش رغيد، وإنما هجرة إلى الله ورسوله. وتبعاً لهذا الانتقال، فقد كانت تربيتنا مختلفة تماماً عمن حولي من صديقات المدرسة. أذكر أني كنت أسمّع لوالدي أثناء الذهاب إلى المدرسة - الآجرّومية ثم ألفية ابن مالك وهي كتب في علم النحو.
وكنت لصغر سني أحسبه أمراً عادياً أن ينشد أبي في السيارة: "إذا قالت حذامِ فصدقوها *** فإن القول ما قالت حذامِ" ثم يساعدني في مراجعة النحو، أو أن أرى والدتي منكبة على شرح كتاب رياض الصالحين لابن عثيمين، حتى كبرتُ وأدركت كيف غير رجل نصراني بريطاني من حياته حتى غدا يساعد ابنته في النحو، وكيف ترقت فتاة من سنغافورة في مدارج العلم حتى أصبحت تقرأ بلغة عربية فصيحة رغم أنها لم تبدأ بتعلم العربية إلا بعد أن جاوزت عمر الثلاثين!
أظن أن ما ذكرته يكفي لاستنتاج أن والديّ كانا استثنائيين في كل مراحل حياتهما، ولعل أكثر ما يبهرني إلى يومنا هذا هو بحثهما الدائم عن الحق ثم ولاؤهما له في كل شيء. وأذكر كثيراً عظيم جهادهما في تربيتنا، فأحمد الله على أن رزقني بهما.
نشأتي في الرياض وانتقالي إلى إيرلندا..
أحببنا الرياض كثيراً، هي كانت وما زالت أكثر مكان أشعر فيه بالانتماء. درست فيها حتى المرحلة الثانوية في مدرسة عربية، ثم سافرت إلى ماليزيا لأدرس القانون. أما الآن، فأسكن في مقاطعة جميلة في إيرلندا مع زوجي (هو من باكستان بالمناسبة) وأبنائي الثلاثة: عثمان و عالية ودانية، وأعلّم أبنائي منزلياً.
لم تكن إيرلندا بلداً جديداً عليّ، فهي مسقط رأس جدتي، وبلد أخوال أبي، وقد زرتها من قبل وأنا في الجامعة، وهي تشبه بريطانيا كثيراً لكن دون تمدنها. فالطبيعة هنا كما خلقها الله، جمالها وعر وخام، وسكانها قلة. كان عثمان وعالية ما يزالان صغيرين عند انتقالنا، فتأقلما مع البيئة الجديدة بسرعة بحمد الله وفضله.
تأثري بطريقة والديّ في التربية..
حاولت نقل جزء من تربية والديّ لي لأبنائي، فقد ربياني أنا وإخوتي على حب العلم والقراءة، وأذكر من ذلك عزم والدي على أن نتقن العربية، فبدل أن يشتري لنا كتباً وقصصاً باللغة الإنجليزية اشترى لنا سير أعلام النبلاء، وملأ المكتبة بالكتب العربية، ولكي نحافظ على لغتنا الإنجليزية في نفس الوقت طلب منا والديّ الالتزام باللغة العربية في المدرسة فقط، وتبقى الإنجليزية هي لغة التحدث في البيت، ولا تزال هي لغتي الأقوى واللغة التي أفكر بها إلى الآن. ومع أني لستُ خبيرة في مجال اللغات، إلا أني أكاد أجزم أن هذه الطريقة في فصل اللغات هي ما أعطتنا الطلاقة بكلتا اللغتين: العربية والإنجليزية.
أدخلنا والديّ في مدارس عربية في الرياض، ولكنهما في الوقت ذاته أبقيانا على دراسة المناهج الإنجليزية في المنزل، حتى إذا وصلنا نهاية الثانوية، تقدم بعضنا للجامعة بنتائج الثانوية السعودية، والبعض الآخر بالكفاءة الثانوية البريطانية.
أعلم أن هذه البيئة التي أنشأها والديّ لنا تبدو بيئة مميزة وغريبة وشديدة في الوقت ذاته، لكنها تربية لم يكن فيها شيء من الحرمان. حرص والدي على زرع الرقابة والإقناع بالحسنى، فكبرنا مقتنعين ومحبين لاختلافنا عن الآخرين، سواء كان في عدم وجود تلفاز بالمنزل، أو ألعاب الفيديو. قضينا عطل الصيف ما بين أهل والدي في بريطانيا وأهل أمي في سنغافورة، ولأن رابطة الدين هي الرابطة الأقوى، شعرنا بالقرب من أهل والدتي أكثر من أسرة أبي. هذا ما أستحضره عن نشأتنا.
تربيتي لأبنائي..
أتذكر في الماضي بأن أول خاطرة خطرت لي حول الأمومة - وذلك قبل أن أتزوج بفترة - هي أنني لا أريد أن أنجب فقط لأن هذا هو ما يأتي بعد الزواج بطبيعة الحال، بل لكي أنشئ جيلاً صالحاً ذو همم عالية.
فالأمومة برأيي هي أسمى أنواع العطاء النقي الذي يرضي الله، وهي الرغبة الملحّة لإنشاء طفل سويّ يعبد الله و يعمر الأرض كما ينبغي. الأمومة هي بناء الإنسان، لبنة لبنة، حتى من قبل أن يخرج إلى هذه الدنيا، وهي التزود الدائم من العلم لنفهم صغارنا ونعرف حاجاتهم جيداً.
أما بالنسبة لطريقتي في تربية أبنائي، فقد اتبعت قاعدتين أساسيتين أستحضرهما الآن:
1. قبل أن أربي أبنائي، لا بد لي من تهذيب نفسي وتعليمها
فأساس التربية هي الرفق بالطفل والتودد إليه وفهم مراحله ثم الصبر عليه، وتدريب النفس على هذه الأمور يحتاج إلى جهد عظيم. أذكر أنني مررت بمرحلة صعبة قبل عدة سنوات، لاحظت حينها أني بدأت أفقد صبري مع أبنائي، فأعدت تدريب نفسي على الصبر معهم من خلال أساوري الثلاث. فكنت أبدأ اليوم بثلاث أسوار على معصمي الأيمن، وإذا فقدت صبري مرة، نقلت إحدى هذه الأساور إلى اليد اليسرى. فإذا انتهى اليوم ووجدت الأساور الثلاث في معصمي الأيسر يكون هذا اليوم سيئاً، فأحتاج إلى وقفة مع أحداثه ووعد لنفسي بأن غداً سيكون أفضل.
في بداية الأمر، كانت الأيام تنتهي بالأساور الثلاث في يدي اليسرى. ثم شيئاً فشيئاً اعتدت على الصبر وضبط النفس، وانتهت أيامي بالأساور الثلاث ثابتة في معصمي الأيمن.
2. الطفل بفطرته قادر على فهم أمور عظيمة لو بُسِّطت له
وهو كذلك مفطور على حب التزوُّد من العلم والاستكشاف. إذاً لتكن أولى سنواته مليئة بالكتب والقراءة والتزود من العلوم والاستكشاف بطريقة فطرية شيقة ممتعة له. فالعلم يهدي إلى الخالق ويهذب النفس ويشحذ الهمم، ومن شبّ على شيء شاب عليه.
التحديات التي واجهتني في الغربة..
من أكبر التحديات التي واجهتني ولا تزال هي بعدي عن والديّ وعن إخوتي. أذكر ذلك الشعور والألم الذي كان يملؤني وأنا صغيرة في كل مرة أعود فيها من سنغافورة، والذي ما زلت أعيشه إلى الآن حتى بعد سنوات من الفراق. أشتاق لعائلتي وأشتاق لرؤية أبنائي معهم. وكما أن في الهجرة وعي وإدراك ومعرفة، فيها أيضاً فقدٌ واشتياق دائم لا يعرفه إلا من يكابده.
ويلي ذلك تحدٍّ من نوع آخر وهو اختلاف الدين، إلا أن وجود المجتمع المسلم والتعليم المنزلي كان يعيننا على الثبات ويعزز الهوية الإسلامية في نفوس أطفالي بالذات، فاحتكاك الطفل بمن يشبهه في الإيمان بأن (لا إله إلا الله) يساعد بشكل كبير، لأن أكثر ما يحزنني هنا رؤية الانهزام النفسي عند الأطفال المسلمين ممن يذهبون إلى المدارس، أسأل الله الثبات لنا جميعاً.
اختياري للتعليم المنزلي لأطفالي..
بعد انتقالي إلى ايرلندا واجهت مشكلة عدم وجود أي مدرسة إسلامية في مدينتي، لذلك اخترت التعليم المنزلي لأبنائي، ولكن كلما طالت تجربتي في التعليم المنزلي أجدني أتعرف إلى أسبابٍ جديدة للثبات على هذا الطريق.
لا أتبع مع أبنائي في التعليم المنزلي روتيناً شديداً لأن هذا منزل وليس مؤسسة، وإنما نتبع "ريثماً" أو إيقاعاً. وقد لاحظت أن الطفل كلما أُعطي مساحة واسعة لدراسة ما يريده في الوقت الذي يريده، فإن هذه القدرة على الاختيار تبعث فيه حماساً للتزوُّد من المعرفة. في المقابل، كلما وضع الطفل في صندوق وأُمر بدراسة كذا وفعل كذا فإنه يقاوم العملية التعليمية.
"الريثم" أو الإيقاع اليومي يختلف عن الروتين بأنه غير محدد بوقت، فالروتين هو القول مثلاً بأن درس الرياضيات يتم في الساعة التاسعة صباحاً من كل يوم، يليه درس الإنشاء عند الساعة التاسعة والنصف، وهذا لا يناسب التعليم المنزلي كثيراً. أما "الريثم"، فهو القول بأن يومك يا صغيري يبدأ بحلقة صباحية يليه إما درس الرياضيات أو درس الإنشاء، سواء حدث هذا عند الساعة التاسعة صباحاً أو العاشرة صباحاً أو العاشرة والنصف، وسواء اخترت الرياضيات أو الإنشاء أولا، وسواء أطلت في درس الرياضيات لأنك استمتعت بالدرس أو لأنك احتجت زيادة في الوقت لكي تدرك المسألة، كل هذا لا يهم. المهم أن تتم درس الرياضيات ودرس الإنشاء. فكل درس مختلف، وكل يوم مختلف ولا سيما مع تعدد الأعمار في المنزل.
الأساليب التي اتبعتها في التعليم المنزلي..
بالنسبة إلى الأساليب التعليمية، فإن أكثر الأسر التي تعلم منزلياً تخلط بين عدة طرق بناءً على نوع المتعلمين في المنزل وأعمارهم واختلاف المواد. فمثلاً، اخترت طريقة الوحدات التعليمية للعلوم والمواد الاجتماعية لأنها تناسب اختلاف أعمار أبنائي، واخترت منهج الرياضيات السنغافوري لأني أحب طريقة التأسيس فيه. فالأمر ذو سعة، ولعل هذا من أكثر ما أحبه في التعليم المنزلي.
عندما أختار نظام التعليم المنزلي فإني بذلك أختار الحفاظ على وقتي ووقت أبنائي، كما أني أجاهد لكي أزرع فيهم أن العلم ليس له وقت أو مكان. العلم ليس مرتبط بمدرسة أو دوام، وإنما هو أسلوب حياة، وطلب العلم ليس مواد تحفظ لاجتياز الاختبارات، أو كتب مدرسية تغلق لأننا في إجازة، أو تخطيط ومعلومات مقدمة لا بد للطالب أن يحفظها مكرهاً، بل هو تعطش للعلم ثم كفاح لإرواء العطش. العلم هو الحياة.
مشروعي الجديد " ماذا أعلم طفلي؟ وكيف أبدأ؟"
لإيماني بأن الله سبحانه وتعالى قد فطر الطفل على محبة العلوم والرغبة الملحة للاستكشاف (بالذات استكشاف الطبيعة)، فقد وهبه قدرة ذهنية خارقة تفوق قدراتي وقدراتك مجتمعة. فالطفل قبل عمر السادسة يتعلم بلا محاولة منه، وتكمن وظيفة الوالدين في هذه المرحلة تزويده بالمصادر التعليمية وإحاطته ببيئة ثرية تعينه على التعلم وتطوير إمكاناته الذهنية.
لذلك، قمت بجمع خلاصة ما أعرفه عن تعليم الأطفال من عمر الولادة وكيفية تقديم أساسيات العلوم للطفل الصغير الذي لم يبلغ سن المدرسة الإلزامي، ولكنه لم يزل على فطرته المحبة للعلم والمعرفة في دليل إلكتروني.
جاءتني فكرة الدليل بعد أن بدأت تصلني عشرات الأسئلة بشكل يومي عن طريقتي مع أبنائي، كيف بدأت بتعليمهم بنفسي وما هو العمر المناسب للبدء؟ وكنت أقضي جزءاً كبيراً من وقتي في المساء لأجيب عن هذه الأسئلة، حتى خطرت لي فكرة صياغة الأجوبة على شكل كتاب إلكتروني يستفيد منه الجميع.
وقد لقي الدليل بفضل الله وتوفيقه قبولاً كبيراً لم أتوقعه عند من تتابعنني من الأمهات، حتى صرن يشاركني الرسائل والصور لأبنائهن الصغار وهم يتعلمون ويقرؤون ويستكشفون الطبيعة من حولهم.
يمكنكم اقتناء الدليل من هنا.
في النهاية، نصيحتي لكل أم، تعرفي إلى طفلك وقدراته أكثر، وتعلمي كيف يفكر وبماذا يفكر؟ اجلسي معه والعبي معه واستكشفي معه وتحاوري معه، فالتعليم الذي يتلقاه من المدرسة لا يكفي لإنشاء إنسان سوي يعبد الله ويعمر الأرض كما ينبغي. وكونك أماً لهذا الطفل يجعل منك أفضل مدرِّس له على الإطلاق، فهو يقلدك من غير أن تقولي له "افعل" أو "لا تفعل"، فكيف إذا جلست معه وتعرفت إلى قدراته وطريقة تفكيره ثم أحطته بما يناسب سنه واهتماماته وطريقة تعلمه، فلن تجدي معلمة في صف دراسي مهما قلّ عدد الطلاب فيه، أعرف بهذا الطفل وأحرص عليه منك!
وإذا أردت أن تخلقي جواً من العلم في المنزل، ابدئي أنت في طلب العلم، وكل ما يعينك على تربية طفلك وتعليمه، وبهذا يعود التزود من العلوم والمعرفة بفائدة على العائلة بأكملها بإذن الله.